عنوان الفشل في لبنان

02 نوفمبر 2022
+ الخط -

رحل الرئيس اللبناني، ميشيل عون، عن قصر بعبدا بعد ست سنوات عجاف قضاها في الرئاسة. ومن بين الرؤساء الثلاثة عشر منذ استقلال لبنان عام 1943، سيُذكر عهد عون على الأرجح بأنه الأسوأ، إذ شهدت فترة حكمه جملة من الأزمات السياسية والاقتصادية أوصلت البلد إلى قاع لم يصل إليه في عز أيام الحرب الأهلية (1975 - 1990). ولم يخرج عون من القصر إلا وقد تأكّد "نكاية" أنه أدخل لبنان في فوضى سياسية، يتوّج بها أزماته المعيشية والمصرفية والصحية والبيئية باتخاذه قرارا غير مسبوق بإقالة حكومة مستقيلة، بحكم الانتخابات العامة التي جرت في مايو/ أيار الماضي، وذلك حتى لا تؤول إليها سلطات رئيس الجمهورية، بعد أن فشل في إجلاس صهره مكانه في قصر الرئاسة.

إذا أخذنا في الاعتبار شخصيته، ما كان لعهد عون، على الأرجح، أن يكون مختلفا، فقد جاء إلى السلطة بروح انتقامية، يوقدها إحساس واهم بالمظلومية، نشأ بعد حرمانه من الوصول إلى الرئاسة في فترة أبكر نتيجة صفقة سورية - أميركية أخرجته من الحكم إلى المنفى عام 1990. في منفاه الباريسي، الذي دام 15 عاما، لم يغب حلم الرئاسة يوما عمّن يسميه أتباعه "جنرالا"، وكان مستعدّا لفعل أي شيء من أجل بلوغه، إلى حد أنه اضطر إلى الخروج من جلده بإبرامه تحالفًا مع حزب الله عام 2006، وليغدو حليفا للنظام السوري بعد أن كان رمزا للخصومة معه. مع ذلك، لم يكن تحالفه مع حزب الله وحده كافيا لإيصاله إلى قصر بعبدا، فاضطرّ أن يعقد صفقة أخرى مع تيار المستقبل عام 2016، بعد أن ظلّ يتهمه بالفساد، ويحمّله مسؤولية ما آلت إليه أحوال البلاد، صار بموجبها "الجنرال" رئيسا للجمهورية في مقابل عودة الحريري الابن إلى رئاسة الحكومة التي خسرها مطلع عام 2011 عندما استقال الوزراء المحسوبون على حزب الله. كان يُفترض أن يؤدّي وصول عون إلى الرئاسة الى حلّ بعض العقد التي يعاني منها. ولكن، بدلا من ذلك، اتبع الرجل سياسة مناكفة أدّت إلى شلل العمل الحكومي في السنوات الثلاث الأولى من حكمه، كما أدّى إصراره على "حصصٍ" بعينها في الحكومة والإدارات العامة، خصوصا توزير صهره، جبران باسيل، إلى أزماتٍ سياسيةٍ وخدمية مستمرّة.

بناء عليه، لم يبلغ العهد الميمون منتصفه حتى كان البلد قد انهار اقتصاديا، ومصرفيا، حيث فقد المودعون أموالهم في أسوأ فضيحة مصرفية في التاريخ الحديث. مثّلت انتفاضة تشرين الأول (2019) بارقة أمل بإمكانية تجاوز نظام المحاصصة الطائفية باعتباره نظاما ريعيا يتم فيه تقاسم السلطة والثروات بين زعماء الطوائف الذين يقومون بدورهم بتوزيعها على أقربائهم وأزلامهم من دون أدنى اعتبار لمعايير الكفاءة والأهلية. ولكن الانتفاضة التي رفعت شعار "إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة" و"كلّن يعني كلّن"، انتهت بإسقاط أضعف حلقات السلطة، وهي الحكومة، فيما ظلّ عون وبقية زعماء الطوائف يتمسّكون بمناصبهم وامتيازاتهم. ومع حلول عام 2020 أعلنت الحكومة إفلاسها وعجزها عن تسديد فوائد ديونها التي بلغت نحو مائة مليار دولار. ولم يبلغ عهد عون عامه الرابع حتى حلت كارثة انفجار مرفأ بيروت، التي دمّرت، إضافة إليه، جزءا من العاصمة، الأحياء المسيحية تحديدا، تلك التي يدّعي الرئيس المنصرف أنه يمثلها وينافح عن حقوقها. ولأن هناك احتمالًا بتورّط حلفائه في المسؤولية عن وجود مئات الأطنان من نترات الأمونيوم، صمت الجنرال الرئيس، لأن أي إشارة الى ذلك قد تكلف صهره الرئاسة التي يحلم بها.

مع بلوغ العهد نهايته، صار لبنان دولة فاشلة، ليس بالمعنى المجازي، بل بالمعنى الحرفي للكلمة. اذ غدت الدولة عاجزةً عن توفير الخدمات الرئيسية، مثل المياه النظيفة والكهرباء وجمع القمامة، فعادت أمراضٌ كان يُحسب أنها من الماضي، كالكوليرا. كما انهار النظام القضائي، وصار الجنود وعناصر الدرك يركبون البحر مع غيرهم في قوارب الموت نحو المهجر. صحيحٌ أن عون ليس وحده المسؤول عن الحال التي وصل إليها لبنان، غير أن الرجل ظلّ حتى آخر دقيقة من عهده مشغولا عن كل ذلك بكيفية توريث صهره الرئاسة، فهل هناك بؤسٌ أعظم من هذا؟