عندما يقترب الحل في ليبيا ويبتعد

30 ابريل 2021
+ الخط -

يكاد يكون مسلسل الانهيارات السياسية والاقتصادية ثابتا بنيويا في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والمثير أن يتحول هذا المشهد إلى اختيار استراتيجي لدى الرؤساء والحكومات، فعوض التصدّي للأزمات واحتواء التوترات والانكباب على بلورة سياسات عمومية ناجعة واستباقية، ومخططات تنموية مدروسة، ومبنية على معطيات علمية، للنهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية التي بلغت درجة من الاستفحال والتفاقم غير المسبوق، نجد أنظمة انغمست في حالة من الفوضى والتسيب المؤسساتي، حيث فضلت الجلوس في مكان المتفرّج، غير مكترثةٍ بالتداعيات الخطيرة لهذا النوع من التدبير المزمن، المرتهن لمنطق الحساسيات والصراعات، وتصفية الحسابات الأيديولوجية والمذهبية والطائفية والمليشياوية، وتنازع المصالح الاقتصادية.

في مختلف المراحل التاريخية، عندما يتعلق الأمر بانتقال ديمقراطي، أو تحوّل في العمق، يطاول مختلف البنيات والمؤسسات والعلاقات والقيم، والأنساق الفكرية، والمنظومات الأيديولوجية، يكون هناك فاعلون متوافقون ومتفقون، على برنامج حد أدنى، يشمل كل المجالات والمستويات، بما يحفظ المشاريع والأهداف المنشودة من الإخفاق والتعثر، وبما يعزّز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي. وهذه عناصر ضرورية، تشكل الأساس الصلب، والعمود الفقري، في أي بناء ديمقراطي، تتطلع إليه الحراكات الشعبية، وتناضل من أجله الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية. ولكن هذه المعايير والقواعد المرجعية في أي عملية تغيير لم يتم تفعيلها، والعمل بها في دول عربية كثيرة شهدت هبّات شعبية واحتجاجات بأشكال وطرق مختلفة، ما أنتج وضعا مفكّكا وإيقاعا مرتبكا وخطاباتٍ متوترة ومتصارعة ومواقف متصادمة. وكان لافتا وصول دول بعينها إلى حافّة الانهيار الشامل، واختفاء المؤسسات المجسدة للشرعية والهيبة، والضامنة استمرار الخدمات الأساسية. ففي ليبيا التي تشكل حالة معقدة بكل المقاييس، بسبب المنحى الذي سارت فيه تطورات الأحداث، منذ إطاحة نظام العقيد الراحل معمر القذافي، اختفت الدولة، وتناسلت المجموعات المسلحة، وتعدّد المتدخلون والفاعلون الأجانب، واندلعت حروب طاحنة، وقسمت البلاد إلى شرق وغرب، وملل ونحل، واستيقظت واستعرت النعرات القبلية والعشائرية، وكأن المجتمع الليبي فقد طرّا ومطلقا عقله وضميره ومشاعره الوطنية.

مؤشّرات تدل على أن أنصار حفتر وقواعده تم حشدهم وتجييشهم للاحتجاج على زيارة رئيس الحكومة

عندما تحولت ليبيا إلى ساحة حرب مجنونة ومفتوحة على المجهول، وعلى أسوأ الاحتمالات، تدفقت من مناطق وجهات مختلفة أسلحة ثقيلة ومتنوعة، وعناصر متطرّفة، ومرتزقة لا يملكون من عقيدة وتعليمات سوى إتقان مهمة التدمير والقتل وبث الرعب وتفكيك المؤسسات وإجهاض فرص السلام والوئام الوطني. وعلى الرغم من مبادرات وحوارات ولقاءات في مناطق مختلفة من العالم، وعلى الرغم من الوساطات والجهود التي بذلتها الأمم المتحدة، فإن فرقاء الأزمة الليبية وجدوا صعوباتٍ كبيرة في تقديم التنازلات الضرورية والممكنة لتأمين شروط مصالحة وطنية، تقطع مع التسيب والانفلاتات الأمنية والاختراقات الأجنبية. وتؤسّس للعدالة الانتقالية، المستندة إلى الصفح والتسامح وجبر الضرر المعنوي والمادي، بما يضمن عدم تكرار تجارب الماضي، المثقل بالحروب والانتقامات والمثخن بالجراح والآلام.

كان من الممكن جدا أن تتفق مكونات الأزمة الليبية على أرضية مشتركة منذ سنوات، لاحتواء الوضع المزمن، خصوصا وأن اتفاق الصخيرات (المغرب) الموقع سنة 2015 شكل وثيقة عملية لجمع الشمل وتوحيد الصفوف وتعبئة الجهود وتوجيهها صوب خدمة الاستقرار، عبر إعادة بناء المؤسسات وتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، تشارك فيها شتى ألوان الطيف السياسي، وإنعاش الاقتصاد وتأمين إنتاج المنشآت النفطية، وإنشاء مؤسسة عسكرية وأمنية وطنية واحدة، بعيدا عن الحساسيات والألوان السياسية والأيديولوجية، يعهد إليها حماية وحدة البلاد والدفاع عن الشرعية والمشروعية ودولة القانون التي يحكمها دستورٌ مستفتى بشأنه. ولكن تداخل خيوط الأزمة وامتداداتها الإقليمية والدولية، وتعدّد اللاعبين والفاعلين وصراع المواقع وتضارب المصالح وتحول ليبيا إلى ملاذ للتنظيمات الإرهابية والعصابات والمليشيات الموالية لهذه الجهة أو تلك، وانتشار الأسلحة بشكل صعب التحكم فيه، لكن هذا كله أجهض كل الأماني والأحلام والآمال، وبدا واضحا أن الصراع الحاد والقوي بين أطراف متنافسة، جعل فرقاء الأزمة في ليبيا رهائن في أيدي هذه القوى.

يصعب التكهن بمسار سليم ومستقيم للأزمة الليبية التي اختار فاعلون فيها التمترس في الجبهة المضادّة للسلام

الآن، وبعد شهور من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بناء على اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في جنيف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبعد قطع خطوات مهمة على طريق إرساء دعائم المصالحة الوطنية، وإنهاء المواجهات العسكرية بين الفصائل المتناحرة، وخصوصا بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق السابقة التي كان يرأسها فائز السراج، يظهر أن ما تم إنجازه وتحقيقه بات مهدّدا ومرشحا للانهيار في أية لحظة. وهنا يمكن اعتبار قرار منع الحكومة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، من عقد اجتماع مجلس وزرائها للمرة الأولى في مدينة بنغازي التي تسيطر عليها قوات حفتر، خطوة مدمرة وقرارا خطيرا قد يفجر الأوضاع مجددا، ويعيد ليبيا إلى نقطة البداية. وبعد رفض استقبال طائرات حكومة الوحدة في مطار بنينا، اضطرت الأخيرة إلى تأجيل اجتماعها في بنغازي التي ما زال حفتر يعتبرها قلعته الحصينة ومجاله الحيوي الذي يتحكّم فيه كما يشاء. ويستبعد أي تنسيق أو ترتيب مع حكومة الوحدة، بل هناك مؤشّرات تدل على أن أنصار حفتر وقواعده تم حشدهم وتجييشهم للاحتجاج على زيارة الدبيبة الذي اتهم بتجاهل بنغازي، ثاني أكبر مدن ليبيا، وتفادي زيارتها، على الرغم من وجوده في وقت سابق في طبرق في المنطقة الشرقية. كما أن ملف المرشحين للمناصب القيادية في الوظائف السيادية، استنادا إلى ما انتهت إليه جلسات الحوار الليبية في مدينتي بوزنيقة وطنجة المغربيتين، لم يحسم بصورة نهائية، وما زال يثير حساسية بين مجلسي الدولة والنواب.

أمام هذه التحدّيات وغيرها، يصعب التكهن بمسار سليم ومستقيم للأزمة الليبية التي اختار فاعلون فيها التمترس في الجبهة المضادّة للسلام والأمن والاستقرار. وقد يشكل التقارب المصري – التركي، وما سينتهي إليه من توافقات وتفاهمات، خشبة النجاة لحكومة الوحدة الوطنية، وعاملا جوهريا للدفع بمسلسل المصالحة بين الفرقاء، وتنفيذ الأجندة المتعلقة بتنظيم الانتخابات، واستكمال بناء المؤسسات وإنعاش الاقتصاد وفرض سلطة الدولة وهيبتها.