عندما يتخلى قيس سعيّد عن الحياد في قضية الصحراء

31 اغسطس 2022

الرئيس التونسي قيس سعيّد يستقبل زعيم "بوليساريو" إبراهيم غالي في تونس (26/8/2022/الأناضول)

+ الخط -

شكّل الاستقبال الرسمي الذي خصّ به الرئيس التونسي قيس سعيّد، زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، انعطافة في موقف بلاده حيال قضية الصحراء، وأثار أزمة في علاقات تونس مع المغرب، خصوصاً أنّ غالي جاء إلى تونس للمشاركة في فعاليات ندوة طوكيو للتنمية في أفريقيا (تيكاد 8) التي احتضنها العاصمة التونسية يومي 27 و28 أغسطس/ آب الجاري، الأمر الذي قابلته الرباط بالانسحاب من الندوة، وبسحب سفيرها من تونس، ثم أصدرت وزارة الخارجية المغربية بياناً اعتبرت فيه أنّ "الاستقبال الذي خصّصه رئيس الدولة التونسية لزعيم القوات الانفصالية يعدّ عملاً خطيراً وغير مسبوق، يسيء بشكل عميق إلى مشاعر الشعب المغربي وقواه الحية"، وأنّ "تونس قرّرت في تضاد مع موقف اليابان، وفي انتهاك لعملية الإعداد والقواعد المعمول بها، وبشكل أحادي الجانب، دعوة الكيان الانفصالي". في المقابل، استغربت الخارجية التونسية ما ورد في بيان نظيرتها المغربية، واعتبرته تحاملاً غير مقبول على تونس، ومغالطاتٍ بشأن مشاركة وفد "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" في الندوة، وذكّرت بأن تونس حافظت على حيادها التام في قضية الصحراء التزاماً بالشرعية الدولية، وأنّه سبق لـ"الجمهورية الصحراوية" أن شاركت في دورات سابقة لـ"تيكاد"، بحضور المغرب.
وتحاجج أوساط سياسية مغربية بأنّ سعيّد اختار اللعب بالنار في علاقات تونس بالمغرب، وذلك باستقباله الرسمي زعيم البوليساريو، وهو أمر لا يمكن تفويته هذه المرّة، إذ سبق أن تغاضت المملكة عن أخطاء ومواقف مسيئة سابقة للرئيس سعيّد، لكن الكأس قد فاض بها هذه المرّة، والحساب السياسي قد بدأ أوانه، الأمر الذي ينذر بملامح حدوث قطيعة بين البلدين المغاربيين.

لم يستسغ المغرب جلوس سعيّد إلى جانب زعيم البوليساريو خلال حضوره العرض العسكري في الجزائر بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر

ويأتي سحب الرباط سفيرها من تونس، ليس فقط على خلفية استقبال سعيّد زعيم جبهة بوليساريو، وحساسية قضية الصحراء بالنسبة إليها، بل تتويجاً لخلافاتٍ تراكمت بين البلدين، وطفت على السطح في الآونة الأخيرة، حيث لم يستسغ المغرب جلوس الرئيس سعيّد إلى جانب زعيم البوليساريو خلال حضوره العرض العسكري في الجزائر بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال الجزائر في 5 يوليو/ تموز الماضي. إضافة إلى أن الرئيس التونسي لم يزر المملكة المغربية، فيما زار الجزائر ثلاث مرّات، وذلك في سياق التقارب الكبير مع الجزائر، الذي يحاول بعضهم تبريره على خلفية لجوء الرئيس سعيّد إلى الجزائر طلباً للمعونة، وبغية التصدّي للأزمة الاقتصادية التي تعصف بتونس منذ سنوات، ووصلت إلى حدّ مواجهتها صعوباتٍ في تسديد ديونها المتراكمة مع صندوق النقد الدولي، والتي عليها سدادها بغية حصولها على قرض جديد، لكن الأوساط المغربية ترى أن هذا يفترض أن لا يتم على حساب ضرب سياسة "الحياد الإيجابي" التي كانت تتخذها تونس طوال السنوات الماضية، وألا يفضي هذا إلى تبنّي الخطاب الجزائري حيال قضية الصحراء وسواها من قضايا المحيط المغاربي.
وكانت مقدمات الأزمة بين تونس والمغرب قد ظهرت منذ قرار المملكة غلق أجوائها أمام الطائرات التونسية، على الرغم من أن مبرّره الظاهري كان انتشار وباء كورونا في تونس، لكنه كان يخفي دوافع سياسية وراءه، وقدراً من القلق والانزعاج في الأوساط السياسية المغربية من مواقف تونس، ومثّل ذلك بداية برود وفتور بين البلدين، بالتزامن مع حملات وهجمات إعلامية متبادلة. 
وكان ملك المغرب محمد السادس قد أرسى معياراً لعلاقات المغرب مع دول العالم، بناء على موقفها من قضية الصحراء، في خطابه يوم 20 أغسطس الحالي، بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لما تعرف بذكرى "ثورة الملك والشعب"، إذ اعتبر أنّ "ملف الصحراء هو النظّارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات. لذا، ننتظر من بعض الدول من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنّى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكلٍ لا يقبل التأويل".

تبنّت تونس رسمياً سياسة الحياد الإيجابي منذ اندلاع الصراع بين المغرب والجزائر حول الصحراء في منتصف سبعينيات القرن الماضي

ويعكس معيار الملك التشدد الذي يتخذه النظام في المغرب حيال قضية الصحراء، إذ يصرّ على اعتبارها "صحراء مغربية"، لأنّها تشكل جزءاً من أراضي المملكة المغربية، رافضاً أي مصطلح أو أي حديثٍ يتناول "الصحراء" فحسب، ومعتبراً أنّ مصطلح "الصحراء الغربية" تشكيك ضمني في السيادة المغربية عليها، فيما اعتبرت الجزائر، منذ البداية، أنّ الصراع في الصحراء الغربية يدخل في سياق تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير، ويتطلّب حلاً عبر تطبيق القانون الدولي، واعترفت بـ"الجمهورية الصحراوية الديمقراطية"، التي أعلنتها جبهة بوليساريو في 27 فبراير/ شباط 1976.
وتبنّت تونس رسمياً سياسة الحياد الإيجابي منذ اندلاع الصراع بين المغرب والجزائر حول الصحراء في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأعربت عن استعدادها لبذل مساعٍ في سبيل التوصل إلى تسوية سلمية لقضية الصحراء برعاية الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية، وذلك كي لا تغضب جارتها الجزائر أو تتأزّم علاقتها بالمغرب، لكنّ هذه السياسة وضعت الأنظمة السياسية في تونس في مواقف حرجة أحياناً، نظراً إلى صراع النظامين في الدولتين الجارتين، اللتين حاولتا جرّ تونس إلى اتخاذ موقف داعم لكل منهما، فضلاً عن أنّ هذا الصراع المديد ساهم، بشكل كبير، في عرقلة كل مشاريع التعاون والتكامل المغاربية. ومع ذلك، حاولت تونس لعب دور الوسيط، وبما يرسّخ فكرة الحياد الإيجابي لدى كلٍّ من النظامين المتصارعين بشأن الصحراء وسواها.
ويبدو أنّ الموقف الجديد الذي جسّده استقبال الرئيس سعيّد شخصياً زعيم بوليساريو، وما استتبعه من إجراءات بروتوكولية بعزف النشيدين الوطنيين ورفع العلمين، قد ألغى سياسة الحياد الإيجابي، وألغى معها حرص تونس على النأي بنفسها عن الصراع حول الصحراء، لصالح انعطافة جديدة، تكلّلت في خطوة الرئيس سعيّد التي اعتبرتها المغرب اعترافاً ضمنياً بالجمهورية الصحراوية، الأمر الذي ستكون له انعكاسات سلبية على علاقات تونس والمغرب، وبما ينذر بحدوث قطيعة بين البلدين.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".