عندما تنشّط الرباط التاريخ الثوري لأفريقيا
لا يُخفي المغرب إرادته في تعزيز عودته إلى أسرته المؤسساتية الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليا) منذ 2017، بنَفَس ثوري مفكر فيه بقصدية، من خلال استعادة تراث أفريقيا الكفاحي. وما يميز المشهد اليوم في الوسط السياسي، من داخل الدولة والمجتمع معا، أن الفرصة قد سنحت لهذا التوجّه لكي يعبّر عن نفسه بقوة من خلال الاحتفاء بيوم أفريقيا والذكرى الـ 60 لتحرير القارّة.. ويجد في الماضي الذاتي لبلاد المغرب الأقصى خميرة نبيلة ومتعالية، باستعادة تاريخ مشترك كانت لحظة ميلاده عند استضافة مؤتمر الدار البيضاء وإنشاء ما يُعرف في التاريخ المعاصر للقارّة بـ "مجموعة الدار البيضاء" ذات التوجّه التحرّري والثوري التي اشتغلت إلى حدود 1963 عند تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية مقابل "مجموعة مونروفيا" وضمّت نيجيريا وليبيريا وتونس وغيرها من الدول حديثة العهد بالاستقلال، والتي تم وصمها بالقرابة مع الأفكار الليبرالية المنتشرة لدى المستعمر، مع التشديد على أن الأبعاد القومية الأفريقية كانت حاضرة لدى المجموعة الأولى، وهي تغذّي حاليا بعضا من الخطاب الأفريقي المعاصر. وللتذكير، يقدّم المغرب نفسه حاضنة عربية إسلامية لروح التحرر الأفريقية، باسترجاع اللحظة التأسيسية لهذا الطموح القارّي في الانعتاق من بقايا الاستعمار، ومن صيغ الاستعمار الجديد. ومعروف أنه حلّ في المغرب في يناير/ كانون الثاني 1961 قادة الحركات التحريرية وقادة الدول المناهضة للاستعمار، المالي موديبو كيتا، والغيني أحمد سيكوتوري، والمصري جمال عبد الناصر، والغاني كوامي نكروما، والإمبراطور الإثيوبي هايلي سيلاسي، ورئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عبّاس، والليبي عبد القادر العلام ممثلا للملك محمد إدريس السنوسي، وتميزت اللحظة التأسيسية بحفل "توقيع ميثاق، لوضع قطيعة مع القوى الاستعمارية". والواقع اليوم يدفع إلى استعادة هذه الشرارة، ولعل أهم مسوغات العودة التقدّمية إلى تاريخ القارّة وجودها من جديد في قلب الأطماع والسياسات الإمبريالية.
أمام أفريقيا فرصة لتعدّد الشراكات عوض الارتباط ذي البُعْد الواحد والوحيد، مع بروز لاعبين دوليين في القارّة من أمثال الصين وروسيا، ودول إقليمية قوية مثل السعودية وقطر
وعند السؤال: لماذا يشهر المغرب الحاجة إلى استعادة التاريخ الثوري لأفريقيا؟ يأتي الجواب بديهيا: أولا، لأنه يشعر أن له نصيبا معتبرا من الاحتضان السابق لهذا المدّ الثوري. ثانيا، لأن جزءًا كبيرا من خطاب الدولة المغربية حاليا، ومن ممارستها ينبعث من مسلَّمة تفيد بأن على القارّة أن تستقل بقراراتها وثرواتها، وتفكّر في نفسها للخروج من لحظة طويلة من الاستنزاف. ويتزامن هذا الشعور المغربي مع شعور عام في القارّة، يتمظهر من خلال تحول بلدانٍ بكاملها عن علاقة الترابط التبعي مع دول الاستعمار السابق، كما هو حال رواندا مع باريس، الرفض العلني للقوات العسكرية فوق تراب دول أخرى، كما هو حال مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وإلى ذلك، أمام أفريقيا فرصة لتعدّد الشراكات عوض الارتباط ذي البُعْد الواحد والوحيد، مع بروز لاعبين دوليين في القارّة من أمثال الصين وروسيا، ودول إقليمية قوية مثل السعودية وقطر.
والخلاصة أن الوضعية الراهنة أحْيت أجوبة قدّمها الراحلون من القادة على تحدّيات الزمن الأول من الاستقلال، كما فتحت شهية التاريخ لمزيد من الأجوبة على أسئلة الراهن. كما اتضح أن المد الثوري يحتاج إلى مضمون جديد يلائم السعي الأفريقي لدى النخب الجديدة للإفلات من سيطرة القوى الخارجية أو من إرْثها في تفكيك الكيانات الوطنية الأفريقية!
ويتغذّى هذا النَّفَس الثوري الحالي، كما يبدو، من أسئلة الحاضر كما يتغذّى من أجوبة الماضي التحرّري. ويشعر المغرب بأنه مفوّض قارّيا بالحديث باسم أفريقيا في قضايا جوهرية من صميم قلق الحاضر، ولعل أبرزها التنمية الاقتصادية والإرهاب، والهجرة، (المرصد الأفريقي للهجرة في المغرب، بناء على اقتراح الملك محمد السادس) والمناخ الذي استضاف قمته الـ22 وعقد على هامشها مؤتمرا للقادة الأفارقة، فوَّض للملك محمد السادس الحديث باسم القارّة والدفاع عن مصالحها في هذا الباب (قمّة العمل الأفريقي، على هامش مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب22) المنعقد بمراكش سنة 2016). ولطالما لعب هذا الدور بوصفه ناطقا باسم القارّة، عند الحديث مع الشركاء الآخرين (الاتحاد الأوروبي نموذجا للتكتلات القارّية الشريكة أو اليابان من خلال مؤتمر تيكاد)، ويرى صاحب القرار المغربي إن أفضل طريق لاستقلال القرار الأفريقي هو إيجاد "أقطاب أفريقية قوية" تفكر من داخل مصلحة القارّة، ومصلحة هذه الأقطاب عوض شراكةٍ تكون بمثابة "مناولة" اقتصادية!
نشعر اليوم بتغير النظرة إلى الفترة نفسها من تاريخ أفريقيا تحت نير الاستعمار، لأن الناظر تغيَّر، بفعل ما تعرّضت لها الأجيال الجديدة في علاقتها مع قوى العالم المُعوْلم
ولعلها طريقة الرباط في تكييف الأجندة التحرّرية الأولى لبلاد الدولة الوطنية المستقلّة والمستقرّة. ونشعر اليوم بتغير النظرة إلى الفترة نفسها من تاريخ أفريقيا تحت نير الاستعمار، لأن الناظر (وهم الأفارقة اليوم) تغيَّر، بفعل ما تعرّضت لها الأجيال الجديدة في علاقتها مع قوى العالم المُعوْلم، وتؤكّد السياسة ما يحتمله التاريخ، بحيث ينفتح أمام المؤرّخ والمتابع والفاعل السياسي، اليوم حقل لا نهائي لإعادة قراءة هذا التاريخ على ضوء الموقع الجديد للقارّة في العالم. ولعل التغير الجذري الحاصل حاليا أن الدول هي التي تستعيد "شبابها" التحرّري، وهي التي تحمل روح التمرد وتزرعها، بعد ستة عقود من التسيير "الحر"، وليست الدولة حديثة الخروج من رحم حركات تحرير لم تكن تعرف ساعتها لحظة دخولها التاريخ الرسمي للأمم. ولربما نجد بعضا من تفسيرٍ لهذا المد الثوري الحالي في شعور جيل من القادة بأن الماضي المجيد لا يمكن تجاوزه من طرف حاضر، بات في حكم الصدى الخافت والضعيف له.
ومن اللافت حاليا أن التركيز على هذا التراث التحرّري يضع في قلبه شخصيات كاريزمية، ربما لم تعشه بالكامل، كما هو حال نيلسون مانديلا. والذي يوظَّف تاريخه في تقدير الرباط ضد الوحدة الترابية للبلاد، ويزج الثقل السياسي والاقتصادي والجيوستراتيجي لجنوب أفريقيا في مواجهة مع المغرب. ويعود تاريخ مانديلا والمغرب في فقرات عديدة، ومنّا التذكير بأنه كانت للمغرب في بداية الستينيات وزارة للشؤون الأفريقية، وكان على رأسها أحد رجال الدولة المغربية الحديثة، عبد الكريم الخطيب (كان وراء اندماج إسلاميي "العدالة والتنمية" في الحقل السياسي من داخل هوية حزبه السابق الحركة الدستورية الديمقراطية)، وهو نفسه الذي استقبل مانديلا ودعمه بالمال والسلاح، في الفترة إياها. ولعب المغرب وقتها دورا بارزا في لقاء مانديلا بقادة الثورة الجزائرية في مدينة وجدة، ومنهم هواري بومدين وأحمد بن بلة ومحمد بوضياف. وقد زار وحدات قتالية من جيش التحرير الجزائري التي كانت ترابط في المدينة الحدودية، وتسلم جواز سفر مغربيَّا، سهَّل الحصول عليه الكولونيل عبد الحفيظ بوصوف، مؤسّس المخابرات الجزائرية، والذي كان يتوفّر على جوازات سفر مغربية منحها له عبدالله الخطيب.
يُراد لاستعادة التاريخ المغربي مانديلا أن تكون رسالة حاضر ومستقبل أيضا، لما له من كاريزمية في الذاكرة التحرّرية الأفريقية
يُراد لاستعادة التاريخ المغربي مانديلا أن تكون رسالة حاضر ومستقبل أيضا، لما له من كاريزمية في الذاكرة التحرّرية الأفريقية، فقد كان لهذا الزعيم حضور في المغرب، وسبق لكاتب هاته السطور أن ترجم كتابه "طريق طويل إلى الحرية"، بعد صدوره بالفرنسية مباشرة، وفيه "بدت لي الرباط، المغربية، بجدرانها العتيقة والغامضة ومجالاتها الأنيقة وصوامعها القروسطوية، مزيجاً يجمع أفريقيا بأوروبا والشرق الأوسط. ويبدو أن جنود الحرية كانوا يعتقدون الشيء نفسه، ذلك لأن الرباط كانت ملتقى كل حركات التحرّر في القارة تقريباً، فقد التقينا هناك بمناضلين من موزامبيق وأنغولا والجزائر وغيرها، كما كان يوجد فيها مقر القيادة العامة للجيش الثوري الجزائري".
وكان لافتا أن حفلا رسميا في وزارة الخارجية المغربية كان مسرحا لإعلان رسمي من المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير أنها أصدرت مؤلفا بأزيد من 900 صفحة بالعربية والفرنسية بعنوان "الذاكرة المشتركة المغربية الجزائرية"، تناول فيه باحثون ومتخصّصون، منهم 22 مغربيا و20 جزائريا مختلف أوجه الدعم المادي واللوجستي الذي قدمته المملكة المغربية لجبهة التحرير الجزائرية، منذ اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية في فاتح نوفمبر 1954 إلى غاية إعلان استقلال الجزائر الشقيقة في 5 يوليو 1962".
ختاما، نحن مدينون للكاتب والباحث التاريخي غابرييل مارتينيث غروس بعبارة باهرة، تفيد بأن سوء قراءة التاريخ قد يقودنا إلى الوعي بأننا "في طورنا لخسارة المستقبل بوجود حاجز قِياميٍّ يسد الأفق"، وهذا وحده سببٌ كافٍ لكي يعود القادة الأفارقة إلى طبيعتهم، أي طلبةَ تاريخٍ!