عندما تقود مقاربة تجنّب الحرب إلى الوقوع فيها
فيما يسود الترقّب أجواء إيران، وفيما تُخلي مليشياتها المنتشرة في أرجاء المشرق العربي مواقعها تحسّبا للردّ الأميركي المنتظر على الهجوم الذي تعرّضت له قاعدة أميركية في شمال الأردن، فجر الأحد الماضي، يقفز إلى الواجهة مجدّدا السؤال الملحّ، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزّة في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن إمكانية الانتقال من الصراع منخفض الحدّة الذي يدور بالوكالة حالياً بين إيران والولايات المتحدة، وفق قواعد اشتباكٍ مقبولة لكليهما، إلى مواجهة مباشرة.
والواقع أن مقاربة إدارة بايدن العلاقة مع إيران ووكلائها في المنطقة، وتهرّبها من الردّ على هجماتٍ كثيرةٍ طاولت قواتها (تعرّضت القوات الأميركية في سورية والعراق خلال الشهور الثلاثة الماضية إلى أكثر من 170 هجوماً، ردّت على أقلّ من سبعةٍ منها)، بغية تجنّب الحرب، إنما تدفع، في حقيقة الأمر، إلى الوقوع فيها، ذلك أن السلوك الأميركي يعطي انطباعاً بالضعف والتردّد، ما يشجّع على استهداف القوات الأميركية في المنطقة بهجماتٍ أكثر عنفاً ودموية، ويزيد، في المقابل، الضغوط على إدارة بايدن للردّ، ليدخل الطرفان في سلسلةٍ من الخطوات التصعيدية المتبادلة، المؤدّية حتماً إلى مواجهة مباشرة. ورغم أنّ إيران ووكلاءها لا يقلّلون مطلقاً من قدرات الولايات المتحدة العسكرية والأمنية والاستخباراتية، بدليل حال الترقّب والوجوم التي تخيم عليهم منذ هجوم الأردن، فإنّ الموضوع لا يتّصل بالقدرات، بل بقراءة كل طرفٍ الآخر وتوقعاته لردات فعله ولامتحان رغبته وإرادته في المواجهة.
ومنذ وصولها إلى الحكم تعطي إدارة بايدن مؤشّراتٍ يتم الاستدلال منها على ضعف يعتريها، يزيده وضوحاً إصرارها على عدم الانزلاق إلى مواجهات عسكرية جديدة، سواء في منطقتنا أو في مناطق أخرى. وقد شكلت الطريقة المهينة والفوضوية التي انسحبت بها الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس/ آب 2021 وصورة النصر التي حصلت عليها حركة طالبان بدخولها "المظفر" إلى كابول بعد 20 عاماً من مقارعة الأميركيين، أبلغ تعبير عن ذلك.
ترى إدارة الرئيس بايدن أن منطقة الشرق الأوسط تستهلك الكثير من تركيزها وطاقاتها، وهي لا تريد تكرار أخطاء الإدارات التي سبقتها لجهة استنزاف القدرات الأميركية في حروبٍ لا طائل منها، وهي لا تريد أن تسمح، في أي حال، بالتشويش على تركيزها المنصبّ كليا على الصين التي ترى أنها كانت المستفيد الأكبر من التورّط الأميركي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي خلال العقدين الأسبقين (2001 - 2021). تفهم إيران هذا الأمر تماما، ويستغله بوضوح وكلاؤها في المنطقة لتصعيد هجماتهم على القوات الأميركية، على أمل دفعها إلى الانسحاب من سورية والعراق كما حصل في أفغانستان، وهو أمرٌ غير مرتبط بالحرب على غزّة، كما تحاول مليشيات ايران أن توحي به، لأن الهجمات على القوات الأميركية في البلدين العربيين تزايدت في حقيقة الأمر أواخر عام 2021، مع تعثر المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي وخيبة الأمل الإيرانية من إمكانية رفع العقوبات، وتوقّفت في سبتمبر/ أيلول الماضي عندما توصل الطرفان بوساطة قطرية إلى "صفقة" لتبادل السجناء والإفراج عن ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المحتجزة في البنوك الكورية الجنوبية.
الخطأ الذي يمكن أن يقع الآن هو أنه وفيما تستمر إدارة بايدن في إبداء مزيد من الضعف أمام إيران، بخاصة بعد التسريبات عن استعدادها للانسحاب من سورية، وربما العراق، يزداد ضغط إيران عليها لتسريع قطف الثمار. تكمن الخطورة في هذا النمط من الفعل وردّات الفعل في أن بايدن، الذي يواجه معركة إعادة انتخاب صعبة، يصبح مع اقتراب موعد الانتخابات أكثر حساسية للانتقادات التي توجه إليه في الداخل الأميركي بشأن كونه رئيساً مسنّاً وضعيفاً، وقد يجد نفسه مضطراً، في لحظة يأس، لتحسين حظوظه الانتخابية إلى اتخاذ قرار بعمل عسكري في الخارج، وهو ما فعله الرئيس جورج بوش الأب، عندما قرّر التدخل عسكرياً في الصومال على أمل إنقاذ فرصه للفوز بولايةٍ ثانيةٍ قبل شهرين فقط من موعد الانتخابات الرئاسية عام 1991.