عندما تساوي اللامركزية "الإدارة الذاتية"

11 سبتمبر 2023
+ الخط -

وحده النظام السوري الحالي المستفيد من أي خلط وتقزيم لمطالب الحرّية على الصعيدين الفردي والجمعي، وهو المعني المباشر في التشكيك بأي مطالب تحدّ من سلطته السياسية أو الاقتصادية أو الإدارية في المحافظات السورية، سواء التي تحت قبضته الأمنية، أو الخارجة عن سطوته المباشرة وتقع تحت حكم أمر واقع "مسلح"، كما في مناطق النظام تحت الحمايتين الروسية والإيرانية، ومناطق الفصائل المعارضة تحت العلم التركي، أو مناطق الإدارة الذاتية (قوات سوريا الديمقراطية) تحت الحماية الأميركية. وكما يسعى إلى الاستفادة من حالة فوضى المصطلحات الحالية في حياتنا السياسية، يرتب الأمور ليضع المطالب المحقّة التي يرفعها أهالي السويداء في تظاهراتهم في سياق هذا "الخلط المتعمّد" لتفريغ معنى (ومضمون) المطالبة بالانفكاك عن سلطوية المركز الاستبدادية. 
تركّز تظاهرات السويداء على الحل الشامل للصراع السوري المتمثل في قرار مجلس الأمن 2254، ولا يعني ذلك أنها مدفوعة من معارضة خارجية أو تبعية دولية، وإنما يوضح الشعار عمق وعي المتظاهرين بأن معاناة السوريين لا تحلّها القرارات الترقيعية للحكومة السورية، وهي ليست مرتبطة، فقط، بواقع الفساد الداخلي للنظام شديد المركزية، وسرقة مقدّرات الدولة وإفقار تنوّعها الإنتاجي، أو خروج بعض مصادر دخلها من ثرواتها من موازنة الدولة، وبخاصة أن تلك الثروات (البترول والغاز)، بأرقامها الحقيقية، غابت عقودا عن أرقام الموازنة السورية.

يستفيد النظام من الفهم الخاطئ للامركزية لشحذ شعور القوميين العرب بأن اللامركزية تستهدف وحدة سورية أرضاً وشعباً

ما يعني أن قراءة المتظاهرين في السويداء ودرعا ومناطق كان النظام يدّعي تبعيتّها، أو ولاءها له، المشهد السوري أكثر نضجاً، بعد أن أهدر النظام كل فرص الحل الداخلي، وهو التداعي باتجاه الحل السياسي الذي يحدّد مساره القرار الأممي المذكور، بما فيه من بنود بناء ثقة (وتحديدا إطلاق سراح المعتقلين)، ويمهّد لرفع العقوبات الاقتصادية، وبالتالي البدء بعملية التعافي المبكّر وإعادة الإعمار.
المشكلة الحقيقية في تعاطي السوريين مع مصطلح اللامركزية أو الفيدرالية افتراضهم مسبقاً أن الإدارة الذاتية، أو ما تعرف محلياً بمناطق حكم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) العسكرية، هي الشكل المطابق لمصطلح اللامركزية، متناسين أن "الإدارة الذاتية"، بواقعها الحالي، تمثل دولة داخل دولة، وذلك لوجود جيشٍ خاص بها، وشرطة وسياسة خارجية، وأدواتٍ تنفيذية، ولا يحكمها الدستور المركزي، أي أنها اليوم تمثل واقعا تقسيميا لسورية، كما هو الحال في ما تسمّى مناطق المعارضة المحرّرة، وكذلك واقع مناطق إدلب الواقعة تحت حكم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وكلها مناطق يحكمها السلاح الذي تحمله الفصائل، بالتساوي مع مناطق النظام التي يحكمها هو أيضاً بسلاح أجهزته الأمنية وزنازينها.
ويعزّز النظام السوري عبر إعلامه هذا الفهم الخاطئ للامركزية، بل يستفيد منه لشحذ شعور القوميين العرب بأن اللامركزية تستهدف وحدة سورية أرضاً وشعباً، وبذلك يحشد الناس خلف مركزيته وفردانيته بالسلطة التي دفع كل السوريين وفي كل المحافظات، وخصوصا البعيدة عن العاصمة، ثمنها، فنشأ بسبب تلك السياسات التنموية الفاشلة ما سمّي المحافظات النائية (ريف حلب والحسكة والقامشلي والرقة ودير الزور)، التي لا تملك أي اكتفاء ذاتي من موارد بشرية وبنية تحتية، على الرغم من أنها أرض الكفاءات البشرية المشهود لها، والتي أجبرت، بسبب ظروف المعيشة، على الهجرة الداخلية أو الخارجية، وهي أرض الثروات الباطنية، والتي على مرّ العقود احتكرتها كل الأطراف التي حكمتها بالسلاح، سواء من النظام أو الإدارة الذاتية، من دون أن تعم فوائدها على السوريين من أهالي المنطقة أو البعيدين عنها.

لم تنفع الشعب عودة النظام غير الصادقة إلى الحضن العربي، التي أخلّ بشروطها، لأنه حتما لا يستطيع تحمّل تبعاتها

لا تعني رغبة السوريين بإدارة أحوالهم الرغبة في الانفصال عن سورية الدولة، ولكن الهدف منها قطع دابر الفساد الذي يأتي عبر المركز، من خلال التعيينات الحزبية من خارج المحافظة في المناصب الإدارية والخدمية، واعتماد تلك التعيينات على المحسوبيات والوساطات والرشاوى، إضافة إلى تعطيل أشغال الناس من خلال ربطهم بمؤسّسات المركز، من دون أي عائد وطني على المناطق أو المركز كمؤسسات، وإنما وسيلة ابتزاز للمواطنين. أي أن مطالب اللامركزية الإدارية، أو حتى بالمصطلح الفيدرالي كما هو الحال في كل الدول الفيدرالية المتماسكة، هدفها وضع حدّ للفساد من جهة، والاستثمار في الجهد المحلي، وتوطين كوادره، حيث لم ترفع أي شعاراتٍ انفصالية تطالب بوجود جيش للمحافظة على غرار فصائل "قسد"، أو حكومة تدير سياساتها الخارجية منفصلة عن سورية، كحال الإدارة الذاتية مثلاً، أي أن اللامركزية المطلوبة عبارة عن "حكومة غير طائفية وذات مصداقية"، وربما هذا أكثر ما يؤلم النظام في هذه التظاهرات الشعبية المنظمة محلياً.
يعي النظام حقيقة ما تعنيه بنود القرار 2254، ويتمسك برفضه لها، ويعمل على "تمويته" بالتقادم، كما سار الحال مع قرار الإدارة الذاتية (قسد) بشكلها الحالي، بل التمسّك بقرار مجلس الأمن 2254 هو تمسّك بوحدة سورية التي يؤكّدها القرار، ويحكم تجميد عضويته في جامعة الدول العربية. ولأسباب سياسية ضاغطة، يتعامل مع بنود في القرار، وليس مع القرار بوصفه كتلة جامعة، حيث كل خطوة سياسية باتجاه تنفيذ القرار تعني القبول الطوعي منه بانتهاء دور النظام الحالي، وهو ما رفضه خلال السنوات الماضية، وجعله يمضي بحربه ضد الشعب السوري، وتحمّل السوريون نتائج تلك الحرب من عقوباتٍ اقتصادية، وانغلاق سياسي دولي. ولم تنفع الشعب عودة النظام غير الصادقة إلى الحضن العربي، التي أخلّ بشروطها، لأنه حتما لا يستطيع تحمّل تبعاتها، وعلى الرغم من محاولة بعض الدول تجميل واقع التطبيع معه، بأن له إيجابيات، حيث الشياطين في التفاصيل، وهي كثيرة، من ملفّ الكبتاغون (الطائر) إلى ملف التهجير المستمر، وما بينهما حرب أهلية ساحاتها الحدود الدولية، والتطبيع، في حقيقته، بقي مجرد رؤية لم تكتمل ملامحها عند كل الأطراف، ولن تكتمل، ما لم تضع الولايات المتحدة النقاط على حروف ملفّ التطبيع. 

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية