عندما تخوض "قوة نسائية" معركة فلسطين في الكونغرس
فشل محاولة نواب من الحزب الديمقراطي (الأميركي) في الكونغرس تعطيل منح مليار دولار لتطوير نظام القبة الحديدية الإسرائيلية، المصممة لاعتراض الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية، انتكاسة موجعة، لكنه كشف عن معركةٍ غير مسبوقةٍ في المؤسسة التشريعية الأميركية لوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل إلا بشروط، مثل الكف عن بناء المستوطنات وارتكاب الانتهاكات المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. كما أن هزيمة "الكتلة التقدّمية" داخل الحزب الديمقراطي مؤشّر على قوتها المتنامية في الكونغرس، إذ إن لجوء قيادتي الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، إلى جدولة جلسة خاصة للتصويت على تمويل نظام القبة الحديدية، جاء ردّا على نجاح الكتلة في سحب هذا البند من تشريعٍ مخصّص لمشاريع "دفاعية" للدولة الأميركية. وقد وجّه نجاح الكتلة في شطب دعم القبة الحديدية من التشريع ضربة غير متوقعة لإسرائيل، ما جعل اللوبي الصهيوني يهاجم "أعداء إسرائيل والمعادين للسامية في الكونغرس"، مطالباً رئاسة الكونغرس والحزب الديمقراطي بإيجاد آليةٍ بديلةٍ لتمرير قرار الدعم قبل نهاية شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، فاستجابت قيادتا الحزبين بجدولة جلسة تصويت شفوي في الكونغرس على دعم تطوير القبة الحديدية. ونجحتا في هذا، بعد حملة شرسة في الإعلام على أعضاء الكونغرس لانجرارهم لمطالب "المعادين للسامية".
حصل اللوبي على ما يريد، غير أنه يجب فهم ما حدث وأبعاده السياسية، فمحاولة تمرير تمويل دعم القبة الحديدية باعتباره جزءا من تمويل الحكومة الأميركية كانت تهدف إلى الاستعجال بالحصول على التمويل بعد فشل القبة الحديدية باعتراض عدد غير متوقع من صواريخ المقاومة، والادّعاء أن نظام هذه القبة جزء من "منظومة الدفاع" عن أميركا نفسها، وبالتالي استمرار كذبة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس". وقد دفع نجاح الكتلة "التقدمية" في سحب المشروع زعيم الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس، ستين هوير، إلى الاتصال فوراً بوزير الخارجية الإسرائيلي، يئير ليبيد، لطمأنته بضمان التمويل، وسط اتهامات وهجمات لاذعة على الحزب الديمقراطي بالخضوع "للراديكاليين المعادين لإسرائيل والسامية"، وبأن السماح بالهجوم المتكرّر على إسرائيل داخل الكونغرس، ووصفها بنظام فصل عنصري (أبارتهايد) و"باتهامها بجرائم ضد الفلسطينيين، وإنكار حق إسرائيل بالدفاع عن النفس" أشاع جوا معاديا لإسرائيل داخل الكونغرس.
ثمّة تغيير مهم داخل المجلس التشريعي الأميركي تجاه إسرائيل
لا يزيد عدد أعضاء "الكتلة التقدمية" عن 20 نائباً، وقد تصل دائرتهم إلى 25 عضوا في مجلس النواب، لكنها (الكتلة)، حين يتعلق النقاش بالتصريحات الأكثر جرأة دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني، تتقلص فعلياً إلى ثمانية أعضاء أو عشرة أحيانا، سيشكلون ما تسمى "القوة النسائية الضاربة" التي تضم النائبة من أصل فلسطيني، رشيدة طليب، إلهان عمر، إلكسندرا كورتيز، إيانا برسلي، كوري بوش، ماري نيومان. وقد أثار مدى تأثير الكتلة المفاجئ ضجّة في الدوائر السياسية الإعلامية، وحملة شيطنة وصلت الى نشر "نيويورك تايمز" مقالا للكاتب بريت ستيفنز يتهم الكتلة صراحة "بتسهيل مهمة حماس في القتل"، وضمنيا بتعريض حياة الجنود الأميركيين للخطر.
ما شوهد هو جانب من معركة فلسطين داخل الكونغرس الأميركي، فالتصويت على تمرير التمويل لا يدلّ بالضرورة على عدم وجود تغيير مهم داخل المجلس التشريعي الأميركي تجاه إسرائيل، والتطورات تتالى، فقبل أيام قدم نواب ديمقراطيون مشروعا يطالب بجعل "حل الدولتين" قانوناً أميركياً ملزما يشترط اعتبار المستوطنات انتهاكا للقانون الدولي ولحقوق الشعب الفلسطيني، ويربط أي مساعدات مالية لإسرائيل بعدم توظيفها في إدامة الاحتلال وضد الفلسطينيين، وإن حل الدولتين يعني إنهاء احتلال فلسطين (المقصود هنا الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967)، وهي مفاهيم لا تتقاطع عملياً مع السياسة الرسمية الأميركية.
العامل الأساس في أي تغيير في أميركا والعالم يأتي من صمود الشعب الفلسطيني، ومقاومة كل الشعوب الاستبداد والهيمنة والاستغلال
لا تدّعي الكاتبة هنا أن هذه تغييرات ثورية، لكنها تطوّر لافت في صفوف ليبراليين كان بعضهم يعتبر الضفة الغربية "يهودا والسامرة"، والآن يعترف أنها جزء من فلسطين. هي تغييرات تتحدّى اللوبي الصهيوني، وتسهم في إحداث ثقوبٍ في الرواية الصهيونية، إضافة إلى أن اتساع معارضة التأييد الأميركي المطلق لإسرائيل جاء نتيجة عدة عوامل، أبرزها تحالف الرئيس جو بايدن، خلال حملته الانتخابية، مع ائتلاف متنوع عرقيا وإثنيا وسياسيا، ومن أوساط أكثر تقدّمية دعمته بهدف إسقاط الرئيس السابق، دونالد ترامب، لكنها الآن تطالب بتغيير الموقف الأميركي تجاه فلسطين، ففي شهر مايو/ أيار الماضي، طالب خمسمائة من فريق بايدن الإداري بمحاسبة إسرائيل على جرائمها خلال الهبّة الفلسطينية في حينه، وعدوان الجيش الإسرائيلي على غزّة.
قد لا يشكّل هؤلاء قوة ضاغطة حقيقية، فقيادة الحزب الديمقراطي غارقةٌ في تواطؤ مشين مع اللوبيات الصهيونية المتحالفة مع صناعات الأسلحة، متبنية سياسات أميركا الاستعمارية في كل العالم، لكنها تغييراتٌ يجب رصدها، لأنها لا تقتصر على أفراد في الكونغرس، بل في المجتمع الأميركي في مجمله، فتمادي ترامب في استهتاره المعلن بحقوق الإنسان في العالم وداخل أميركا ساهم في إيجاد مساحاتٍ لتقاطع الوعي بين المضطهدين والمهمشين، لكن فوز بايدن "أضاء أملاً"، وإنْ بدأ في التضاؤل، بإمكانية إحداث تغييرات نحو المساوة والعدالة الاجتماعية داخل الولايات المتحدة. ولذا لم نشهد نشوء تحالفات وائتلافات شعبية فعالة تربط بين التغيير في الداخل الأميركي وسياسات واشنطن الاستعمارية.
نشرت الإيكونوميست مقالاً لتشومسكي يُشَرِح و يدين وحشية الامبريالية الأميركية، في مؤشر هام على فهم المجلة العريقة المؤيدة للرأسمالية عمق أزمة الهيمنة الغربية
العامل الأساس في أي تغيير في أميركا والعالم يأتي من صمود الشعب الفلسطيني، ومقاومة كل الشعوب الاستبداد والهيمنة والاستغلال. وقد كان لهبّة أيار تأثير كبير على إحداث نقلة نوعية في الوعي أميركيا، خصوصا هذا الوعي الذي تشهده الجامعات في أميركا والدول الغربية لا يقتصر على الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، بل هناك معارضةٌ لكل السياسات الاستعمارية الأميركية في العالم، وأصبحنا نرى ذلك ونسمعه من أعضاء في الكونغرس. وفي حدثٍ غير مسبوق، نشرت مجلة الإيكونوميست مقالا للمفكر الأميركي العالمي، نعوم تشومسكي، يُشَرِّح ويدين حشية الإمبريالية الأميركية، في مؤشّر مهم على فهم المجلة العريقة المؤيدة للرأسمالية عمق أزمة الهيمنة الغربية.
تحدُث تغيرات مهمة، ستؤثر على الوعي العالمي بالقضايا العادلة، لكنها لم تؤثر في سياسيين ومثقفين عرب كثيرين، فجلّ خوفهم مما يسمّى "انسحاب أميركا" من المنطقة إلى الشرق الأقصى لمواجهة نفوذ الصين المتعاظم. وعليه، يكاد مثقفون وقياديون يتوسلون لأميركا ألا تنسحب سياسيا أو عسكريا من منطقتنا. .. صحيحٌ أن عين أميركا على الصين، وأنها لن تتخلّى عن حليفها الصهيوني المدلل أو مصالحها، لكن هذا التوسل والبكاء على "انسحاب أميركا يُضعف الأصوات التقدمية في أميركا، بل هو تواطؤ ضدها، ويضعف الشعوب والأوطان، ففيما يأسف أعضاء في الكونغرس على خسارة التصويت ضد تمويل تحديث صواريخ القبة الحديدية الإسرائيلية، تتسابق دول عربية على التطبيع مع إسرائيل، والأنكى أن نخبا تتفاخر "بالقوة النسائية الضاربة داخل الكونغرس" في جلساتها، وعلى موائد الولائم وتمارس استسلامها اليومي بالصمت والخنوع.