عندما تتّسع المقاطعة عالمياً
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
قد نتذكّر ما حدث من تهميش ومضايقات للمفكّر الفرنسي الراحل روجيه غارودي بعد تأليفه كتاب "الأساطير المؤسّسة لدولة إسرائيل" الذي شكك فيه بالأعداد المعلنة لضحايا المحرقة النازية اليهود. وأبرز ما أراد أن يبينه، في هذا السياق، أن النازية، من حيث هي نزعة عنصرية استعمارية، لم تستهدف اليهود وحدهم، بل استهدفت أيضاً شعوباً وقومياتٍ أخرى، وأن أحداث المحرقة ضُخّمت وأعطيت أبعاداً أسطورية غير تاريخية بغرض توظيفها في صراعات الحاضر، وأن المأساة اليهودية، التي وقعت بالكامل على المسرح الأوروبي، وظّفت لحجب حروب الإبادة وجرائم التقتيل والتهجير القسري التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
نجد حالياً أصواتاً غربية جديدة بسبب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزّة قد دانوا إسرائيل، وحتى الوسائل الإعلامية التي تجمّل صورتها وتُخفي عن المجتمعات الغربية المأساة الحقيقية التي تُرتكب ضد الفلسطينيين، مثل ما حدث أخيراً باقتحام محتجين مقرّ شبكة فوكس نيوز الأميركية في نيويورك، احتجاجاً على أسلوبها المنحاز في تغطية أخبار الموت في غزّة، واعتقلت الشرطة بعضهم. ووقعت مظاهرات وأنشطة عديدة متقطعة شبيهة، تدل على نقصان ثقة الجمهور الغربي نفسه بوسائل الإعلام في بلاده في الموضوع الفلسطيني، ما يدلّ على أن عديدين في هذا الجمهور لم يعودوا، من أجل معرفة ما يحدُث في العالم، يكتفون بمتابعة الوسائل الإعلامية تلك، ومنها الكبرى والشهيرة، بل كان لوسائط "السوشيل ميديا" الدورالأبرز في نشر أخبار لم يكن يرغب ساسة أميركيون وأوروبيون في أن تعرفها شعوبهم، الأمر الذي من شأنه أن يحرّك الشارع العام، ليمارس بالتالي ضغطاً على الحكومات، كما حدث، مثلاً، في النبرة المختلفة التي جاءت من الرئيس الفرنسي ماكرون، رغم أنها لا تصل إلى المأمول من ضغط لوقف المجازر الإسرائيلية في غزّة، ولكنها بدت مختلفة قياساً بما كانت عليه لغة ماكرون في الأيام الأولى للعدوان. ولم يتأتّ ذلك إلا بسبب ضغط الشارع الذي بدأ عديدون منه برؤية الحقيقة من وسائط غير تقليدية.
ذاع قبل أيام فيديو لمواطنة أميركية تصوّر فيه من الخارج مقهى ستار باكس في نيويورك، وبدا خالياً تقريباً من الرواد. وتقول صاحبة الفيديو إنها في السنوات الثلاث الماضية لم ترَ المقهى فارغاً، ولما أصبح الآن على هذه الحالة استدعى منها تصويره ونشر الفيديو بين الجمهور. لا يمكننا أن نتصوّر من قبل أن مقاطعة السلع والمحالّ التجارية الداعمة لإسرائيل يمكنها أن تصل إلى الجمهور الغربي العام. ولكن ثمة مؤشرات يبدو أنها أدّت إلى أن هذا سيبدأ بالظهور، وإنْ بصورة متقطّعة وبطيئة. تقول المرأة في الفيديو، وبلكنتها الأميركية المميزة: "المقاطعة فعّالة استمرّوا". لقد رأى العالم بشاعة ما فعله الجيش الإسرائيلي بالعزّل الآمنين في غزّة، بقصف كل شيء جامد ومتحرّك، لمجرّد افتراض أن حياةً لطفل أو شيخ أو امرأة أو حتى مريض تنبض من داخله. لم يستثن من ذلك حتى المستشفيات، بقصف بعضها وضرب حواليها، مباشرة من الأرض والجو في إعلان سافر للعالم أن لا شيء من الممكن أن يردع الجيش عن قتل المدنيين، حتى إذا كانوا على أسرّة المرض. وفي عُمان، أفتى مفتي عُمان الشيخ أحمد الخليلي بوجوب مقاطعة السلع الداعمة لإسرائيل، الأمر الذي كان له صدى اجتماعي أوسع. وعربياً، بدأت حركات مقاطعة السلع الداعمة لإسرائيل أن تكون مؤسّسية، بعد أن كانت فردية، كما يحدث مثلاً في تونس، وبلدان عربية أخرى.
بدأت المقاطعات الغربية تتشكّل، وإن بصورة بطيئة. فمثلاً، تعوّل حركة "مقاطعة اسرائيل وفرض العقوبات عليها" (BDS) كثيراً على وعي المقاطعة في دول الجنوب خصوصاً (أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا)، حيث يشكلون ما يقارب 85% من عدد سكّان العالم، ما يشكل قوة ضاغطة لإشعار إسرائيل بالخطر الاقتصادي، وبالتالي يساهم في كبح جماحها والحدّ من جموحها الهستيري في الإبادة، لأن الشعوب في العالم الواسع لم تعد ترى بعين واحدة، تلك العين أو المرآة الخادعة التي من أهم وظائفها التغطية على الحقيقة، بدل أن تعكسها وتنشرها.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية