عندما التقيتُ القيصر بكنباور
لمّا سمعت بوفاة قيصر كرة القدم بكنباور، تأسفت ورجعت بي الذكرى إلى لقاء لي معه في أواخر سنة 2001، وذلك بعدما دعاني مرّة سفير ألمانيا وقتذاك في الرباط هانس ديتريش شييل، وكانت لي معه صداقة غريبة يضيق المجال هنا للحديث عنها. استقبلني كعادته بالابتسامة الهادئة والتواضع الكبير الذي نفتقده كثيرا عند معظم مسؤولينا العرب الذين يستمرئون التعاظم أمامنا نحن المواطنين البسطاء. وبما أن الكلفة كانت قد زالت بيننا، كنت أبيح لنفسي ممازحته أحيانا بقدر محدود، حيث قال لي بعد المصافحة: لي عندك خبر أعتقد أنه سيسرّك. فأجبت مبتسما: اللهم اجعلنا دائما من المسرورين. ... ردّ: اعتادت السفارة الألمانية أن تختار كل سنة شخصية مغربية وتوفدها مستضافةً بضعة أيام على حسابها إلى ألمانيا. وهذه السنة اخترناك أنت، ولا سيما أن معرض الكتاب في فرانكفورت قد فتح أبوابه، فكان التخمين لدينا أنه قد تروقك زيارته. فقلت مستبشرا: يا لها من مفاجأة عظيمة السيد السفير. ليقول بلهجة جادّة: ما دمت موافقا، سوف ألقي عليك الأسئلة التي عادة ما نطرحها على ضيوفنا، أولا: من أهم الشخصيات البارزة التي تعرفها في بلدنا؟ دار السؤال في ذهني بسرعة، ثم أجبته: كلوديا شيفر.. التفت إلى السكرتيرة وقال لها آمرا: سجلي اسم السيدة شيفر. ... أردت أن أستدرك الأمر لما رأيتُ أنه تجاهل مزاحي: لا.. أنا أمزح، لو علمت زوجتي بأني أسعى إلى لقاء عارضة أزياء من أجمل حسناوات الدنيا، لنتفت آخر الزغيبات التي تركها التصحّر حول أذني..
تجاهل ما قلت، فأرسل السكرتيرة لتتأكد من مكان إقامتها. عادت بعد لحظة وقالت: آسفة سيدي، مدام شيفر تستقر اليوم في أميركا.. ... ليستأنف: من تعرف من الشخصيات الألمانية الأخرى؟ تريثت لحظة فقفز إلى ذهني اسم فألقيت به: بكنباور... سجلت السكرتيرة اسم الرياضي المشهور، وتابع السفير سؤاله: ثم من؟ لم أجد جوابا ولم أدر ما أقول. فعقب: ما رأيك لو رتبنا لك لقاء مع وزير البيئة، فأنت ابن البادية وتحبّ الطبيعة؟ سألني السفير مواصلا ترتيب لقاءاتي مع بعض الشخصيات في أثناء زيارتي المنتظرة للبرّ الألماني.
وهكذا، وجدُتني بعد أيام في معرض الكتاب بفرانكفورت، وأقضي أياما جميلة في برلين، ثم في ميونخ، وفي كل يوم كانت لي لقاءات عجيبة ومفاجآت كبيرة دوّنت عنها بتفاصيلها في مذكراتي. والحقيقة أنني انبهرت بهذا البلد العظيم، وأعجبت أيّما إعجاب بعقلية سكّانه المتميزة بالجدّية وتقديس العمل. وقد تركت في نفسي العاصمة البافارية ميونخ على الخصوص أثرا بالغا حيث سحرتني بمعمارها ومآثرها ونظافتها. وذات مساء، رجعتُ مع مرافقتي إلى الفندق منهكاً بعد زيارات لبعض المتاحف، وفي نيتي أن أغرق في نوم عميق. لكن ما كدت أودعها وأقول لها إلى الغد، حتى قالت لي: استرح ساعة واستعد للقاء بكنباور. وكنتُ قد نسيتُ أني في الرباط طلبت لقاءه.
مازحت بكنباور: أنا تقريباً في سنّك، الفرق بيننا أنك تجولت كثيراً وتعرّضت للفحات الشمس، بينما أنا كنت مجمّداً بإحكام في ثلاجة كبيرة
توجهنا في تاكسي إلى ملعب بايرن ميونخ، وراقني جمالُه وسعتُه والتنظيم المتقن الذي يسود في مدرّجاته، وقد كان غاصّاً على آخره قبل انطلاق المباراة التي كان سيُجريها فريقه في إطار دوري أبطال أوروبا ضد خصمه حينها دينامو كييف الأوكراني.
انتهى الشوط الأول بانتصار الفريق البافاري بثلاثة أهداف لصفر. وفي الاستراحة، تبعتُ مرافقتي إلى مقصف الفريق، فإذا بي أجد أمامي القيصر في انتظاري بقامته الطويلة. ارتبكت، وكيف لي ألا أرتبك وأنا دائما أستحضر في مثل هذه الظروف عشرين سنة من القهر والمذلّة والاحتقار قضيناها في غياهب مقبرة سجن تزممارت المرعب، وهي مدة تمثل متوسّط عمر فصيلة نادرة من الكلاب، مدة سلبوا فيها آدميّتنا وحاولوا إقناعنا أننا أهون مخلوقاتٍ دفنت حية على أرض بلد عربي اسمه المغرب.
صافحني الرجل بقبضة حديدية. ولو لم أكن متحدرا من البادية لكانت أصابعي قد تحطّمت من شدة قبضته تلك، ثم رحّب بي بجمل فرنسية ركيكة سرعان ما تركها وعاد إلى لغته بعدما علم أن معرفتي بالإنكليزية لا تزيد على كلمة "هاو آريو". فترجمت لي مرافقتي قوله ما معناه إنهم وضعوه في صورة من سيلتقي به قبل هذا اللقاء، وأنه سعيد بلقائي. شكرتُه وقلت له والمرافقة تترجم كلامي جملة فجملة: السيد بكنباور، أنا من أشد المعجبين بك، وقد تتبعت مسارك منذ كأس العالم في إنكلترا سنة 1966، وما زلت أذكر وأنتم تلعبون النهاية مع البلد المضيف أن هدفا من أهداف غريمكم كان فيه كثير من الشك.. ابتسم وأجابني بمرح: هل كنتَ مولودا في تلك الآونة؟ أراك دون سنّك الحقيقي. فأجبتُه مازحا: أنا تقريبا في سنّك، الفرق بيننا أنك تجولت كثيرا وتعرّضت للفحات الشمس، بينما أنا كنت مجمّدا بإحكام في ثلاجة كبيرة.
وداعاً بكنباور، ألهمت كثيرين بإبداعك في الميدان وتواضعك الإنساني الذي لم تحجبْه نجومّيتك
ضحك وقال: أعرف ذلك مؤسف، مؤسف. .. ثم استأذنني بلطف بالغ وهو يشير إلى شخصين بالقرب منا: هل من حرج في أن نأخذ معا صورا مع ذينك الصديقين؟ دقّقت بصري في الرجلين فتعرفت إليهما فورا، إنهما كارل هاينز رومينيكي ورودي فولير. فقلت في نفسي: سبحان مبدّل الأحوال.. الحارس "السرخينطو" الذي طلبت منه عود ثقاب لمّا لسعتني عقرب في الزنزانة رقم 10، وكنت أشرفتُ على الهلاك، قال لي متهكّما: من حقّ العقرب أن تدافع عن نفسها، إذ لو لم تؤذها لمَا آذتك. والقيصر بكنباور يستأذنني أن ينضم إلينا رومنيكي وفولير لأخذ صورة جماعية معنا. ... قلت لبكنباور لما سلّمتُ على رومينيكي: إنه شارك مع المنتخب الذي أقصانا بهدف قاتل في اللحظات الأخيرة من مقابلتنا معكم في ثُمن نهاية كأس العالم سنة 1986 في المكسيك.
ابتسم اللاعبون الثلاثة دفعة واحدة، فعلق بكنباور: الحقيقة أننا نجد دائما صعوبة جمة كلما التقينا مع فرق أفريقيا الشمالية. فأجبته أجل.. مقابلتنا معكم في المكسيك سنة 1970 ومقابلتكم مع الجزائر في كأس العالم سنة 1982.
وقّع لي بكنباور أوتوغرافا قبل أن نفترق، وقال لي والابتسامة لا تفارق محيّاه: على كل حال أنت فأل حسن علينا لأننا متقدّمون في الشوط الأول لمباراة الباييرن بثلاثة إلى صفر.
ولما عدتُ إلى المغرب ونشرت رئيسة القسم الصحافي في السفارة الألمانية حينها، سيلفيا كرونيك، صوري مع القيصر، ذهب كثيرون في تعليقاتهم باتجاهات شتى. كان لقاءً لن أنساه ما حييت.
وداعا بكنباور، ألهمت كثيرين بإبداعك في الميدان وتواضعك الإنساني الذي لم تحجبْه نجومّيتك. وما يؤسفني حقّا أن صورة ألمانيا، البلد الكبير بمثقفيه وفنانيه ورياضييه وشعبه الذي خرج من تحت التراب في حربيْن طاحنتين، قد تكدّرت في نظري بعد انحيازها السافر لكيان الاحتلال الإسرائيلي في حربه لإبادة غزة التي تعتبر في أساليبها امتدادا لأساليب المدرسة النازية وجرائمها البائدة.