عندما أصبح قيس سعيّد الخطر الداهم

12 فبراير 2023
+ الخط -

فأجأ الرئيس قيس سعيّد، في ليلة 25 يوليو/ تموز 2021، التونسيين بخطاب قال فيه إن خطراً داهماً يتهدّد استقرار تونس ومستقبل أبنائها، يدعوه، بموجب الدستور، إلى تحمّل مسؤولياته بصفته رئيساً للجمهورية لتفعيل الفصل الـ80 من دستور 2014 لتغيير نظام الحكم، والقيام بما يلزم من إجراءات عاجلة وفورية لإنقاذ البلاد من خطر جسيم. وتبعاً لذلك، أوقف سعيّد عمل البرلمان ثم جمّده، وأقال الحكومة ورئيسها هشام المشيشي، وعطّل العمل بالمؤسسات الدستورية القائمة، معلناً الدخول في مرحلة استثنائية تُحكَم بالمراسيم.

ارتكز سعيّد على مزاج شعبي عام غير راضٍ عمّا ساد البرلمان المجمّد والمُحل من شوائب لا تخلو منها برلمانات أخرى في مراحل الانتقال الديمقراطي في العالم. ولم يعلن سعيّد طبيعة الخطر الداهم الذي دفعه إلى القيام بإجراءاته المعلومة، وإعلان حكم الاستثناء المقيد زمانياً، والمقنن بخريطة طريق، محطّاتها استفتاء شعبي لاختيار نظام الحكم الجديد وقانون انتخابي آخر واستفتاء على دستور جديد سطّره بنفسه، وجديدُها أخيراً انتخابات تشريعية على الأفراد، بغرض قيام غرفتين تشريعيتين، برلمان ومجلس للجهات والأقاليم.

وشهدت تونس بعد سنة ونصف من هذا التاريخ وضعاً اقتصادياً واجتماعياً تراكمت فيه الأزمات، وتعقدت صعوبات العيش، وصولاً إلى ما أصبح معلوماً من فقدان المواد الأساسية، والشعور باليأس والإحباط من تبدّل الأحوال نحو الأفضل، خصوصاً أنه بان عجز الحكومة التي اختارها سعيّد، وفشلها الذريع في إدارة الشأن العام وإيجاد الحلول الكفيلة والسياسات والآليات التي من شأنها أن تُخرج الناس مما تردّوا فيه من أزماتٍ، وقد وقف التونسيون إزاء هذا الوضع على حقيقة واحدة، حكومة هواة ورئيس قادم من كوكب آخر، كما أعلن ذلك بنفسه، لم يتحمّل الأمانة التي أقسم على الدستور الذي انقلب عليه بأنه سيتحمّلها وأن هذا الرئيس قام متعللاً بالخطر الداهم المزعوم بتلك الإجراءات، لغاية هدفٍ في نفس يعقوب، وهو هدفٌ شخصي يتمثل بحلم قيام مشروع للبناء القاعدي، سعى سعيّد لتحقيقه منفرداً، رافضاً أن يشاركه الآخرون في الرأي والمسؤولية، مالكاً كلّ السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وقد ألغى بموجب ذلك الحريات، وسنّ القانون الـ54 الذي يبيح سجن من ينتقد مساره أو يعارضه، في استقواء معلن بالمؤسستين العسكرية والأمنية.

تعقدت صعوبات العيش، وصولاً إلى ما أصبح معلوماً من فقدان المواد الأساسية، والشعور باليأس والإحباط

لم يختلف اثنان اليوم وتونس أصبحت في مرمى نادي باريس، واقفة على حافّة الإفلاس، أن الرجل أصبح هو الخطر الداهم بعد إصراره منذ توليه منصبه على التوجه إلى التونسيين بخطاب حربي ينبثق من قاموس عسكري، ويعلنه من الثكنات، خطاب ما انفكّ يتردّد في الليل قبل النهار، وجديد فصوله أخيراً ذلك الخطاب المعلن من ثكنة الحرس الوطني بالعاصمة، الذي جاء مباشرة بعد خيبته من الجولة الثانية للانتخابات التشريعية 29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، التي لم تختلف نتيجتها عن صفعة الجولة الأولى من هذه الانتخابات، والتي كانت إعلاناً شعبياً وسياسياً لنهاية مسار سعيّد وفشل مشروعه، فقد تضمّن هذا الخطاب دعوةً صريحةً إلى تحرير تونس من الاستعمار، أثارت جدلاً حادّاً وقراءات عديدة، حذّرت من مخاطر وتداعياتٍ قد ترقى إلى إشعال فتيل الانفجار والصدام، وصولاً إلى حرب أهلية. فقد أعلن سعيّد من داخل ثكنة أمنية للحرس الوطني "أنه يخوض معركة تحرير وطني للحفاظ على الدولة، ويدعو القوات الأمنية والعسكرية إلى التصدّي لمن يتآمرون عليها، وأنه بالتالي لا يقبل إلا بالانتصار والقضاء على من وصفهم بأعداء الدولة والشعب".

إزاء خطابٍ كهذا، دعت جهاتٌ عديدةٌ من الخصوم والمساندين سعيّد إلى توضيح ما يرمي إليه، خصوصاً أن خطابه يفترض أكثر من تأويل إزاء بلدٍ حرّ ومستقل، وله سيادة وطنية منذ سنة 1956، وقد قدّم أبناؤه تضحياتٍ جساماً من أجل ذلك، وها هو الرجل يصفهم بالخونة والمتآمرين على هذا الوطن. وقال محللون إن هذا الخطاب يمكن أن يتعمّده بعضهم دعوة إلى تصفية حسابات، بل وإقامة المحاكم الشعبية ونصب المشانق في البلاد. وقد رفع هذا الخطاب من منسوب الخيبات لدى التونسيين جميعاً. كذلك ورّط سعيّد نفسه، وناقضها في اعتباره أن تونس تخوض "معركة تحرير وطني"، وهو الذي كتب، في البند الأول من دستور 25 يوليو (2021) الذي تفرد بتحبيره، أن "تونس دولة حرّة مستقلة ذات سيادة"، وهو البند ذاته الذي تضمنه دستورا 1959 و 2014 الذي ألغاه وانقلب عليه، بند مضمونُه لا يقبل التشكيك تحت أي ذريعة كانت، ولا سبب كان.

الخطر الداهم الذي أشار إليه قيس سعيّد ليلة انقلابه، ولم يعلن طبيعته، أصبح معلناً للجميع، فهو قيس سعيّد نفسه

وفي مجمل تحاليلها لهذا الخطاب، دعت صحف ووسائل إعلام مرئية ومسموعة ووسائل التواصل الاجتماعي سعيّد إلى مراجعة خطابه، منبهة إلى خطورة ما تضمّنه، ومعتبرةً أن المعركة التي على تونس أن تواجهها اليوم من دون تأجيل هي معركة التنمية ودفع عجلة الاقتصاد المنهار والبحث عن السبل الكفيلة باستخلاص الديون، وشنّ السياسات الجبائية والإجرائية لجلب الاستثمار وإصلاح ما فسد لإنقاذ البلاد من انهيار وشيك، على وقع أزمة اقتصادية واجتماعية، وأزمة ثقة غير مسبوقة في الداخل والخارج، بعد أن تبيّن عجز الحكومة عن تعبئة الموارد الخارجية بتمويل ميزانية 2023، واشتراطات صندوق النقد الدولي، ذهاب تونس إلى نادي باريس الذي سيفتح لها الأبواب على مصراعيها أمام السيناريو اللبناني.

وعلى عكس ما ذهب إليه سعيّد، في دعوته إلى الحرب وتحرير البلاد وإنكار واقع الأزمة المعقدة واعتماد الحلول التلفيقية والتغييرات الاعتباطية، انتظر التونسيون أن تكون نتائج الانتخابات في شوطيها لحظة عودة وعي للرئيس وأنصاره القلائل بخطورة المرحلة، ليسرع الجميع، وفي مقدّمتهم ماسك السلطات وصاحب المشروع الهلامي، بإعلان حكومة إنقاذ وطني وفتح فضاءات الحوار مع كل المنظمات والهيئات والشخصيات الوازنة، وفي مقدمتها الشركاء الاجتماعيون، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الأعراف ورابطة حقوق الإنسان وغيرها، وذلك من أجل أن تتجنّب البلاد السقوط في هاوية المجهول.

إزاء هذا المشهد، لم يُخف التونسيون خوفهم من استمرار هذه الخطابات الحربية التي يُطلقها سعيّد من الثكنات العسكرية، كلما شعر بعزلته وعجزه عن التمكّن من إدارة الشأن العام، وخوفهم من توريط مؤسسات القوى الصلبة العسكرية والأمنية، وإقحامها في معاركه السياسية في نهج غير مسبوق في مسيرة حكام الدولة المستقلة، أو في تاريخ المؤسّستين، العسكرية والأمنية، في تونس. وإزاء ميل سعيّد الذي لم يعد خافياً إلى أجهزة الدولة الصلبة، وتكرّر زياراته لوزارة الداخلية والثكنات العسكرية والأمنية، والاستقواء بها في صراعه السياسي القائم، الذي ينكر فيه سعيّد خطر ما يقوم به، وواقع الأزمات التي استفحلت في البلاد، وهروبه إلى الأمام، وفرض ما يعتقده أمراً واقعاً، يمكن الجزم بأن الخطر الداهم الذي أشار إليه قيس سعيّد ليلة انقلابه، ولم يعلن طبيعته، أصبح اليوم معلناً للجميع، فهو قيس سعيّد نفسه ليس غيره.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي