علي الظفيري .. عودة المثقف العربي
لا توجد لي علاقة خاصة مع هذا الإعلامي القدير الذي يتصدر مكانة قلبية واسعة بين الشعوب العربية في الخليج وكامل الوطن العربي، وإن كنتُ قد كتبتُ عنه قديماً، في أول رحلته مع قناة الجزيرة التي ساهمت في حضور بو سلمان المميز، وبسط كارزميته السهلة وذات العمق في آن، فكانت رسالته إلى القناة رسالة وفاء وتأكيد على مفهوم الشراكة بين المؤسسة والمبدع الإعلامي، والتي بعثها في احتفالية "الجزيرة" بعيدها أخيرا.
يعود علي الظفيري بعد موسم مزدحم من الأحداث والتقلبات السياسية، لا حاجة لي اليوم لذكرها، ولي موقف خاص من الشخصيات الثقافية القديرة أو المبدعين الإعلاميين في تفهم ظرفهم ورحلتهم، أؤيد فيها خصوصية الموقف، والتي، في أصلها وصحة خبرها، لم يتغير فيها علي الظفيري في إخلاصه لزملاء الإنجاز ولموطنهم، وفي وفائه للأمل العربي المعذب، غير أن رؤيتي كانت قديماً في أننا بحاجة دوماً لنماذج المثقف العربي المختلف، ولو لم يدخل في مسارات الأحداث، وحتى لو غاب رأيه، بل بعد تجربة رصد طويلة أرى بقاء بعض الأسماء بعيداً عن المنعطفات السياسية من صالح صناعة الأرضية الفكرية للمستقبل العربي الجديد، وحلم النهضة العربي المتعثر، فالموقف السياسي أحياناً، وليس الموقف المبدئي، وهناك فرق مهم بينهما، قد تكون تبعات موقفه في هذا الزمن وحرمان الرأي العام من جهوده أكبر من مصلحة شراكته في التدافع السياسي.
مستويات الناس الأخلاقية قد يؤسّس لها في إطار القبيلة أو القرية أو البلدة أو نواحي الفلاح العريقة في أرضه، أو حياة أهل الساحل وفي بيوت الناس البسطاء
وقد يكون هذا خلافاً لما اخترته لحياتي الشخصية وقراري المهجري للمآل الفكري، غير أن هذا الأمر ليس قاعدة مطردة تشمل كل الناس، فضلاً عن تقدّم كعب علي الظفيري وشعبيته التي تُسعدني، وتجاوزه القنطرة المتخيلة أو الواقعية بين الجُزر الإسلامية والعلمانية، وهي مساحة عزل شرسة غير مبرّرة، وإنما العزل يجب أن يوجّه إلى طوائف المأفونين أو الراديكاليين الاستئصاليين من الطرفين. ولذلك حين نحتفي بعودة علي الظفيري، فنحن نحتفل بعودة هذا الصنف من المثقف العربي، وهي عبارة تُشرح في كتاب، من هو المثقف العربي، ما هو الدستور الأخلاقي الذي يحكمه، من أين يبدأ؟ هل هو مسار فكري محدّد، أم منهج أخلاقٍ وانفتاح متعدّد يُحلق في سمائنا العربية الكبيرة، لا يهمه قعر الفلسفة، ولا خنادق الحزبيين بين الإسلاميين والعلمانيين، والتي باتت سوراً لتجاذباتٍ وانزلاقاتٍ خاصة، وأحياناً صندوق مصالح أو علاقات، وإنما فكره العروبي أو فكره الإسلامي أو روحه المدنية التشريعية لحرية الإنسان، طيور فكرية ومساحات أخلاقية ونسمات سلوكية، في ظني أول قاعدةٍ لها هي المروءة الشخصية.
وربما جذبنا بو سلمان في شخصه لكونه يحوم في هذا الأفق، ولعلنا نُعجب اليوم أن معاهد التأسيس الحزبي هنا أو هناك، حيث الطيف الفكري العربي، تقلّ فيها أخلاقيات المثقف، بل تُدهش من تنوّع الكراهية في صدور تلك النخب، بما فيها من يهذي باسم النهضة، وهو يكاد يختنق من فكر عبر بجانبه يشارك الكفاح العربي، تحرير رأي أو تبليغ مبدأ أو صناعة قاعدة تنوير، لكنه لم يخرج من تحت معطفه، ولا من تكتلات حزبه أو عصبيته، فهل أدرك علي الظفيري منهجه من مدرسة العروبيين الشرفاء، أم أنه في الأصل رضع من قيم القبيلة، وحيث كانت مواطنها في شمال الخليج العربي، فكان لحن حديثه بين الكويت والسعودية، مزيجاً منصهراً ساهم في حضوره الجميل، ولستُ هنا أقصد على الإطلاق تحديد الأمر في إطار "عصبوي"، أرفض ذلك جملة وتفصيلاً. غير أن مستويات الناس الأخلاقية قد يؤسّس لها في إطار القبيلة أو القرية أو البلدة أو نواحي الفلاح العريقة في أرضه، أو حياة أهل الساحل وفي بيوت الناس البسطاء، وقد تفشل في معاهد الحزبيين العرب، ولطالما ذكّرتُ بعض الشباب بأنك قد تجد من بناة الموقف الأخلاقي في حياتك، من يختلف معك من بيئاتٍ إسلاميةٍ محافظة، أو يسارية وجودية، وهم منزوون في حدائق بيوتهم أو مجالس أفكارهم، فيما تسقط لديك أسماء ونُخب تيارية، تعجز عن القيام بالحقوق الفردية فضلا عن الانضباط السلوكي للمثقف العربي.
لا نزال نترقب محطّات مختلفة وحيوية، يجمع بها علي الظفيري شتاتنا، تشمل مساحتها كل المختلفين، حتى مع الربيع العربي، ليس في مبادئه، ولكن في مآلاته وفي وسائط تجربته
أما الناحية الأخرى لعلي الظفيري التي جاءت على ظمأٍ من الشعب العربي المنهك، فهي تجواله في مقابلته مع أطياف النجاح أو مدارس أو شخصيات التأثير المتعدّدة المختلفة في الوطن العربي، أو في جوارنا الإنساني وشركاء الفكرة أو مختلفي التجربة، ونحن في أولى حلقات العودة إلى "المقابلة"، وقد شدّني أنه نجح في استقطاب المفكر العربي الكبير، وأستاذ الفلسفة الأخلاقي، وائل حلاق الذي أعجز بتمرده الفكري كُهّان الأكاديمية الغربية، ونجح في تثبيت مساره النقدي في قلب هذا العالم المنحاز. ويقف بنا علي الظفيري مع شخصية غنائية تجاوزت لحظة الطرب التي يستمتع بها كل إنسان في فنون الموسيقى والغناء، فكانت عودة عبد الكريم عبد القادر، الفنان المرابط، والملتزم القيمي عبر شاشة الظفيري. وقد كنتُ قديماً وحتى اليوم من جمهوره، متع الله أبو خالد بالصحة والعافية، ولا نزال نترقب محطّات مختلفة وحيوية، يجمع بها علي الظفيري شتاتنا، تشمل مساحتها كل المختلفين، حتى مع الربيع العربي، ليس في مبادئه، ولكن في مآلاته وفي وسائط تجربته.
ويسرني كمراقب من خارج كل المؤسسات الإعلامية، وقلم عربي مستقل، أن تنجح "الجزيرة" في زيادة رقعة برامجها الثقافية النوعية، وأن تزداد مساحات الوعي والترصيف النهضوي الفكري للحلم العربي، الذي يُغطّيه أيضاً برنامج "خارج النص"، وربما هناك برامج أخرى، وأتمنى أيضا بكل إخلاص أن تتجدّد التجربة الثقافية في تلفزيون العربي، وأن تنفتح على المعايير نفسها التي ذكرتُها في المقال، في الشخصيات والمنصّات، أو في مساحة وانفتاح القناة، والكاسب في تنافس القناتين في البعد الثقافي هو بكل تأكيد المستقبل العربي.