عشرة جنيهات جديدة لجمهورية جديدة

22 يوليو 2022
+ الخط -

أصدر البنك المركزي المصري، قبل أيام، نسخته الجديدة من العملة البلاستيكية، بادئا بفئة العشرة جنيهات التي أثارت جدلا كبيرا بشأنها. ومع الأسف، دار الجدل في معظمه عن شكلها والتغيّر الذي طرأ عليه من إضافة صورة لمسجدٍ حديث النشأة لم يُكمل الثلاث سنوات، وهو لا يزال خاليا من المصلين أغلب الوقت، مع ذلك اتخذته الدولة المصرية الجديدة رمزا للجمهورية الجديدة، تبثّ منه شعائر الصلوات وتجول الكاميرات في سقفه ونجفه وسجاده وإضاءته، وكأن ليس هناك تاريخ قبله أو بعده.

تناولت بعض الصفحات السخرية من النسخة المطبوعة باعتبار أجزاء منها مسروقة من بعض فئات الجنيه الاسترليني، أو باعتبار أنّ مصريين عديدين كانوا قد تطوّعوا ونشروا تصميمات أكثر أناقة وأصالة عما تمّ الانتهاء إليه، أو حتى بأنها غير معدّة للأجواء الحارّة حيث تداولتها صفحات الكوميكس الخاصة بمحافظات الصعيد والبحر الأحمر، بعد أن نشروا صورا لها وهي تكاد تسيح من حرارة الشمس.

بغض النظر عن حقيقة ما جرى تداوله عن الأجواء الحارّة، فالذي غاب عن الجدل هنا هو قيمة هذه العشرة جنيهات اليوم، وبعد الإعلان عن الجمهورية الجديدة، فقبل العام 2014، كانت هذه العشرة جنيهات تساوي دولارا وثلث دولار على أقل تقدير، أما الآن فهي تقترب من نصف دولار، وقد تتراجع عنه.

يفرح بعضهم بهذه الإصدارات الجديدة من العملة المحلية، ويقارنونها باليورو والجنيه الاسترليني والعملات الأوروبية، بينما هي مع الأسف تقترب في التدهور بالقيمة من الفرنك الأفريقي المعروف فرانك سيفا أو من الجنيه السوداني والليرة اللبنانية أو السورية في تدهور قيمتها السوقية والحقيقية.

سرعان ما نسي المواطنون الفرحون بالجمهورية الجديدة وإنجازاتها في مجال الطرق ووسائل المواصلات الجديدة، مثل القطار الكهربائي الخفيف أو المونوريل، أن تصريحات المسؤولين عن هذه المشروعات عن تسعير تذاكرها تدور بين 15 جنيها و35 جنيها مصريا، أي أنّ العشرة جنيهات الجديدة لن يكون بإمكان حاملها مجرّد دخول هذه المحطات بهذه القيمة المتدنية لها مع الأسف الشديد.

لم يكد هؤلاء يستريحون من طلعة العشرة جنيهات الجديدة، حتى أطلت علينا هوجة "البيغ ماك". قرّرت شركة ماكدونالدز في مصر، أخيرا، رفع أسعار منتجاتها بنسبة وصلت تقريبا إلى 50% فأصبح سعر وجبة بيغ ماك 78 جنيها مصريا بدلا من 52 جنيها العام الماضي. وفي هذا السياق، انتشر الحديث أكثر عن المؤشّر الذي استحدثته مجلة الإيكونوميست، والذي يسمّى مؤشّر "بيغ ماك".

سألني أصدقاء صحافيون عن هذا المؤشّر، فتذكّرت قول الحكومة إنها لم تبع للمواطنين المصريين البنزين والغاز بالسعر العالمي رأفة بنا من الغلاء، مع أنّ الغاز الطبيعي تقريبا جرى تحرير سعره منذ سنوات، ومعروف عن أغلب الدول المصدّرة للنفط والغاز أنها تبيعه لمواطنيها بأسعارٍ قد تقلّ عن سعر التكلفة أو بسعرها نفسه، كما هو الحال في قطر والجزائر وإيران، باعتبار المواطنين هم، بدرجةٍ ما، أصحاب هذه الثروات، أو باعتبار أن مثل هذا يخفّف ضغط موجات التضخّم المبالغ فيها، والناجمة عن سياساتٍ لا دخل للمواطن فيها، أو حتى لاعتباراتٍ تجارية واقتصادية رأسمالية، حتى لا تتوقف المحطات الكهربائية عن التشغيل، كما هو الحال في ألمانيا التي تشجع مواطنيها على استهلاك مزيد من الكهرباء.

التضخم بالنسبة للمواطن الذي يذهب 60% من دخله للطعام ليس كالمواطن ذي الدخل المرتفع الذي يمثل الإنفاق على الطعام نسبة لا تذكر من دخله

عندما تذكّرت هذا، قلت لنحاول الردّ ببعض الموضوعية على هذا الجدل. ببساطة شديدة، يقول المؤشّر إن المواطن الذي دخله هو الحد الأدنى الجديد للأجور 2700 جنيه مصري، هذا الدخل قادر على شراء 34,6 ساندويتش بيغ ماك فقط، أي أن المواطن الذي يعمل بالحد الأدنى هنا قادر على الحصول على وجبة واحدة سريعة فقط كل يوم شهريا. مع العلم أنّ هذا الحد الأدنى للأجور، وحتى الحد السابق له عند ألفي جنيه لم يطبق على كل العاملين في الجهاز الإداري للدولة، ولا موظفي القطاع العام، ناهيك عن استثناء القطاع الخاص منه، واستحالة تطبيقه عليه في أحيان كثيرة.

أضف إلى ذلك أن وجبات ماك سريعة، وليست وجبة الطبقات العليا في الخارج، بل إنها وجبة الطبقة العاملة البسيطة، ومع ذلك، فهي تعدّ وجبة الطبقة الوسطى العليا في مصر. وبالنسبة لبقية الطبقات هي سلع رفاهية يحصلون عليها في المناسبات.

نودّ الحديث هنا عن آلية تأثير التضخم على أسعار الخبز والبنزين والمواد الغذائية، وعندما نراجع مؤشر بيغ ماك في الحالة المصرية، نجده يعبّر عن معدل التضخم الحقيقي، وليس عن كون الجنيه أعلى من قيمته الحقيقية كما يتم تداوله، وإلا ما الذي دفع الشركة إلى رفع أسعار منتجاتها بنسبة 50%؟ فهذه النسبة تعبّر عن المعدل الحقيقي للتضخم في أسعار الغذاء بالتأكيد، وهي أصلا السبب الرئيسي في رفع معدّل التضخم العام.

لم تقدّم الحكومة المصرية شيئا حقيقيا معتبرا للتعامل مع معدّلات التضخم والفقر المرتفع

كما أنّ معدل التضخّم العام خادع بشكل كبير، فالتضخم بالنسبة للمواطن الذي يذهب 60% من دخله للطعام ليس كالمواطن ذي الدخل المرتفع الذي يمثل الإنفاق على الطعام نسبة لا تذكر من دخله، رغم حصوله على أفخم الأطعمة وذهابه إلى أفخم الحفلات، وهذا هو حال مؤشّراتٍ عديدةٍ مضلّلة تستعملها الحكومة المصرية في التعامل مع أرقام الاقتصاد الكلي وتحتاج لمراجعة وتقديم مؤشّرات تتعلق بفئات التضخم، وفقا لفئات استهلاك المواطنين، حتى تستطيع اتخاذ سياسات أكثر رشادا وعقلانية.

لا نقول ينتظر المصريون شتاء صعبا، بل إنهم عاشوا سنوات عجافا منذ 2016، وارتفعت كل الفواتير بشكل جنوني. ويمكننا أن نرى شكاوى المواطنين وتعليقاتهم على أيّة أخبار تتعلق بأسعار الطاقة أو الفواتير، فمنذ ذلك التاريخ والناس تعيش في الحر الشديد والبرد الشديد، وتخشى أن ينفصل عنها التيار الكهربائي أو المياه، في ظلّ التوّجه لتحويل كل العدّادات إلى نظام البطاقات مسبقة الدفع، بل بتحويل المشي على ممشى أهل مصر بتذاكر مسبقة الدفع، أصبح الوضع خطيرا ولا يحتمل المداراة.

في التحليل الأخير، لم تقدّم الحكومة المصرية شيئا حقيقيا معتبرا للتعامل مع معدّلات التضخم والفقر المرتفعة، بل على العكس ارتفعت بشدّة، بالتوازي مع تطبيق برنامج تكافل وكرامة وغيرها من برامج الحماية الاجتماعية، وهذا لا يعني المطالبة بإلغائها، بل يعني ضرورة اتخاذ إجراءات جذرية لمعالجة الفقر والتضخم والبطالة وبالذات لدى الشباب، وإلا فإنها ستواجه موجاتٍ احتجاجيةً قد تقضي على الجميع. وتفيد التقارير بأنّ مصر من الدول الأكثر عرضةً للاحتجاجات بسبب التضخم وتداعياته بشهادة التقارير الدولية، وعليها أن تتدارك هذا الموقف قبل فوات الأوان.