عرين الأسود ... حالةٌ أم تنظيم؟
أصبح "عرين الأسود" وكتائب جنين وجبع وطولكرم حالةً شعبية مؤرِّقةً للاحتلال، برغم الضربات المُثخِنة المتلاحقة، وخارجةً عن طوق السلطة الفلسطينية، متجاوزةً لخطابها، ومُحدِّداتها. ظهرَ ذلك في الأسابيع والأشهر الأخيرة، كما أظهرُه، أخيرًا، اقتحامُ قوات الاحتلال مخيَّم جنين؛ لاستهداف عبد الفتاح خروشة، على خلفيَّة مقتل مستوطنَيْن، قرب بلدة حوارة، جنوبي نابلس، خلّف هذا الاقتحام ستَّة شهداء، بمن فيهم خروشة، وحوّلَ مخيَّم جنين إلى ساحة حرب حقيقية، أطلقت في أثنائه قواتُ الاحتلال صواريخ محمولة تُجاه المنزل الذي كان يتحصَّن فيه فلسطينيون، مع قوة نيران كثيفة، وسط نجاح المقاومين في إسقاط طائرة مُسيَّرة (درون)، احتلالية. وهذا يدل على تطوُّرٍ نوعيٍّ في كفاءة المقاومة، وعلى صعوبة مستمرّة، في خروج قادة الاحتلال، من اليمين المتطرِّف والفاشي، بنتائج سارَّة، على المستوى الاستراتيجي.
فوق ذلك، الاتجاه الذي تذهب إليه الضفة الغربية ومخيَّماتها، التي طالما كانت أمْيَلَ للهدوء، وأقرب إلى السيطرة؛ لصعوبة الظروف التدريبية والتنظيمية، تحت جهتين فاعلتين: (بأساليب تكمِّل بعضها)؛ دولة الاحتلال، وأجهزة السلطة الفلسطينية، كلٌّ لأسبابه، ودواعيه؛ تتحوّل هذه الساحة الفلسطينية إلى العسكرة، وتستمرّ في سحب البساط، إلى صيرورة وعيٍ جديدة، لا مشاركة كبرى للسلطة (لا تزال على خطابها ومفرداتها)، في تشكيله، أو ضبطه.
مرّة أخرى تستجيب مدن الضفة لنداء "عرين الأسود" للخروج في مسيرات حاشدة؛ لإظهار الالتفاف الشعبي حول هذه الظاهرة الشجاعة والنبيلة، وتكتفي قوات الأمن الفلسطيني بالمراقبة، بعد أن اختارت في المسيرات المماثلة السابقة الغياب. والسؤال عن عرين الأسود وكتيبتَي جنين وطولكرم: هل هما حركة تنظيمية، أم حالة فلسطينية مختلفة؟. بنظرة عامة، أكثر المنخرِطين في هذه التشكيلات شباب، أو في أوّل الشباب، تغلب عليهم صفاتُ أولاد البلد؛ مِن الشهامة والنخوة، والقرب من الناس؛ اقتصاديًّا، وشعوريًّا، وانصهارًا في القاعدة الشعبية. هكذا هم في "عرين الأسود" في نابلس، وهكذا كتيبتا جنين وطولكرم. وحتى لو كانوا، أو كان قسمٌ من أفرادهم، منتمين، في الأساس، إلى تنظيماتٍ فلسطينية، إلا أن بوتقة المقاومة نجحت في صهرهم. وأَمَارة ذلك خطابُهم المتقارب، المتقاطع على معاني المقاومة والانتماء لفلسطين، متوَّجةً بالفداء والاستشهاد.
جاءت هذه الظاهرة لتملأ فراغًا لم يكن له أن يستمرّ، أو أن يُملَأ بانشغالات معيشية، أو سواها؛ ذلك أن العامل الأكبر والأكثر فاعلية هو الصراع مع الاحتلال، في وقت تتجه فيه نخبٌ إسرائيلية متطرِّفة إلى اعتبار 2023 عام حسم الصراع، وفي وقت تعهدت فيه حكومة نتنياهو بشرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية، حتى وفق القوانين الإسرائيلية، فقد صادقت لجنة الخارجية والأمن، التابعة للكنيست، على مشروع قانون إلغاء الانسحاب من أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية المحتلة، ملغيةً بذلك "قانون الانفصال" الذي أُقرّ في العام 2005، قبيل اندحار الاحتلال من مستوطنات قطاع غزة، ومن أربع مستوطنات شمالي الضفة، "غانيم، كاديم ، حوميش، وصانور".
أكثر المنخرِطين في تشكيلات المقاومة الجديدة هم شباب، أو في أوّل الشباب، تغلب عليهم صفاتُ أولاد البلد؛ مِن الشهامة والنخوة
وجديد المؤشِّرات التي قد تقود إلى التأثير التنظيمي على هذه الظاهرة استشهادُ الأسير المحرَّر عبد الفتاح خروشة، من مخيَّم عسكر الجديد، فقد يدفع إلى القول إن هذه التشكيلات فصائلية، في التحريك، والتوجيه، وإنْ كان توجيهًا غير مباشر؛ ذلك أن انتماء خروشة معروف لحركة حماس، ولكتائب القسام. كما يدفع إلى هذا الظنّ ما شهدته مسيرة رام الله الحاشدة؛ من هُتافات لمصعب اشتية، أحد عناصر حركة حماس، المعتقل لدى السلطة الفلسطينية منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، وتتَّهمه السلطة بدعم "عرين الأسود". فصحيحٌ أنَّ لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، في نابلس وجنين، حضورا فاعلًا في هذه الظاهرة، ولكن التشكيلات المسلَّحة لا تقتصر على أفراد الحركتين، بل تشمل شبابًا من حركة فتح وغيرها، وحتى انخرطَ فيها أفراد من قوات الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
وهذا يعني أن المحرِّك هو المقاومة، وأن الجامع المشترَك هو هذا الدافع الأعمّ، وأن الإطار التنظيمي الجديد، بانعتاقه من الانتماءات الفصائلية الضيِّقة، قد أصبح جاذبًا لمختلف الخلفيَّات، والتقاطُع على هدفٍ واحدٍ لا يُختلَف عليه، ويصعب جدًّا تشويهُه، أو التأليب ضدّه، وهو صدّ قوات الاحتلال، والردّ على تعدِّيّات المستوطنين، وإجرامهم، وسط ارتفاع ملحوظ ومحرِّض لتلك الانتهاكات الاحتلالية التي زادت وتيرتها، وارتفع سقف ضحاياها، إلى ارتكاب مجزرة وراء مجزرة، وتعمَّد رفْع عديد القتلى، حتى ممن ثبت لجيش الاحتلال أنهم لا يمثلون خطورة، أو حتى لمدنيين لم يثبُت اشتراكُهم في الاشتباكات، هذا فضلًا عن انفلات المستوطنين ممّا تبقى من عقالهم، إلى هيَجان همجي، تمثّلَ، أخيرًا، في حرق بلدة حوارة؛ بيوتها، وممتلكاتها، وتهديد أرواح أهلها. بالتوازي مع دعم رسمي، ومعلَن من وزير المالية المستوطِن، بتسلئيل سموتريتش، الذي صرّح، بالصوت والصورة، أنه يدعو إلى مَحْو بلدة حوارة.
تستجيب مدن الضفة الغربية لنداء "عرين الأسود" للخروج في مسيرات حاشدة؛ لإظهار الالتفاف الشعبي حول هذه الظاهرة الشجاعة والنبيلة
ومع ابتعاد السلطة الفلسطينية عن هذه الحالة المقاوِمة، بل وقوفها ضدّها، إلا أن ثمَّة تيارًا احتلاليًّا، لا سيَّما مِن أحزاب الصهيونية الدينية، لا ترى أهمية لبقاء السلطة الفلسطينية، وهي تتجه إلى بسط سيادتها على الضفة الغربية، والمناطق المصنّفة "ج"، تجسَّد ذلك في منْح وزير المالية الذي يرأس "الصهيونية الدينية" صلاحيات الإدارة المدنية المسؤولة عن تسيير أمور الفلسطينيين في الضفة.
لعلّ هذا التوجُّه الاحتلالي الحثيث يفسِّر هذا الانكباب الأميركي، على مستوى رفيع، على المتابعة المباشِرة؛ من خلال زيارات متكرّرة، فكانت زيارة الرئيس جو بايدن، في شهر يوليو/ تموز الماضي، ثم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، إلى زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، إلى المتابع المباشر، على الأرض، الممثل الأميركي الخاص للشؤون الفلسطينية هادي عمرو، وأخيرا زيارة وزير الدفاع لويد أوستن، إذ قال في مؤتمر صحافي مع وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إنّ واشنطن قلقة من عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، ودعا إلى العمل مع الأمن الفلسطيني لـ"الحد من العنف، واستعادة الهدوء، قبل حلول رمضان وعيد الفصح". كما أعلن "معارضة الولايات المتحدة ما قد يُسبِّب التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بما في ذلك توسيع المستوطنات وخطاب التحريض".
مع أن الشأن الإيراني لا بدَّ أن يكون من أسباب هذا الانشغال والمتابعة الأميركيين، برغم انخراط الولايات المتحدة الأكبر في الحرب الأوكرانية الروسية، إلا أن تطورات الصراع في فلسطين، وانعكاسات التحوّلات في حكومة الاحتلال، بل في بنية الدولة، على رؤية واشنطن إلى حل الصراع مع الفلسطينيين، أو إدارته، لا بدَّ أنها أيضا من الأسباب والدوافع المهمة. وكانت هذه التحرّكات الأميركية قد أسفرت، رغم عدم مساعدة الظروف، على عقد اجتماع العقبة الذي هدَف إلى تهدئة الأوضاع، أمنيًّا، بتكليف السلطة بمزيد من الانخراط في ملاحقة المقاومة، وكبْح جماح العناصر الأكثر تطرُّفًا في حكومة الاحتلال. ولكن نيران حوارة وصلت ما لم يكد ينقطع مِن مجزرة نابلس، وانضافت؛ لتأجيج الصراع؛ ولتغذية حركات المقاومة الفلسطينية، ولتمتدّ إلى حالة شعبية، إذ هي ضرورة حياتية، وليست مجرّد اتجاه سياسي، أو فكري.