عجز إسرائيلي وإعجاز فلسطيني

22 مايو 2021
+ الخط -

ليس ثمّة اقتراضٌ من مجازيات لغة الأدب، ولا من مخيّلات أهل الشعر، أن يُقال إن انكشافا متجدّدا لعجز دولة الاحتلال الإسرائيلي عوين، في موازاةٍ مع إعجازٍ فلسطيني انطوى على مفاجآتٍ باهرةٍ عديدة، في أثناء المواجهة العسكرية التي توقفت الليلة قبل الماضية بين الصمود الوطني الفلسطيني المقاوم والوحشية العدوانية الإسرائيلية، ففي وسع الدولة العبرية، بما تحوزه من قوة نيرانٍ مهولة، أن تستمر في ارتكاب جرائمها في شعب فلسطين في أرضه، وهي الدولة التي نهضت، في أصلها وأساسها، على ما اقترفته عصاباتٌ يهوديةٌ في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته من مذابح ومجازر وتهجير أهل الأرض منها. ولكن الانتصار الذي تتوسّله ليس في وسعها أن تُحرزه أبدا، فليس من الشجاعة في شيءٍ أن تقتل مئات المدنيين في بيوتهم وحقولهم ومنازلهم، من دون اكتراثٍ بنساءٍ وأطفالٍ وشيوخ بينهم، بقوة الصواريخ الموجهة لديك. ولا تأتي أفعالُك المنكرة هذه لك بالانتصار الذي تريد على مجاهدين صبورين مرابطين، تقيم في جوانحهم إرادة المقاومة، يُساندهم شعبٌ عنيد، وهم يبدعون في ضرب المحتلّين، وترويعهم، وأخذهم إلى الملاجئ، ووقف مطاراتهم، بأسلحةٍ صنعها هؤلاء المقاومون، الشجعان، وحموها وطوّروها في ظروف حصارٍ شديدة الصعوبة والاستثنائية. فضلا عن أن ما اقترفته آلة الحرب الإسرائيلية في جولة الأحد عشر يوما من استهداف المدنيين الفلسطينيين في غزّة، وقتل 245 منهم بينهم 93 طفلا، وتهديم منازل ومنشآت وعقارات، ليس جديدا، ولا يخرج عن حقيقة الصهيونية التي يقوم منطقها على إدامة الصراع مع العرب.

الأساسيّ هنا أن العجز الإسرائيلي عن إنجاز انتصارٍ على الفلسطينيين يعود إلى أن جرائم الحرب التي تحترفها دولة الاحتلال تُواجَه بما هو إعجازٌ فلسطيني، واحدٌ من تمثيلاته تلك المفاجآت التي تذهلنا في كل نوبات الاعتداء على قطاع غزة، أي في الصواريخ التي قال كثيرون منا إنها تَنكٌ وجدواها محدودة، ومن الأسلم عدم استخدامها، حمايةً لأهل غزة من الوحشية الإسرائيلية المهولة. ومع التسليم بنقاء سريرة أصحاب هذا القول، وهم يصدُرون فيه عن حرصٍ على حياة أهل غزّة الصامدين، وعن استفظاع فقدان أي فردٍ فيهم حياته عندما يستخفّ بها الإسرائيلي، فإن المعادلة الراهنة في الصراع مع الوحش الإسرائيلي لم تعد بهذه الصورة، وإنما بأن في الوسع أن يدفع هذا الوحش بعض الثمن، وأن يستشعر أن في مقدور الفلسطيني أن يردّ بما أمكن له أن يردّ به من سلاح، بل وأيضا أن يخاف صنّاع القرار في دولة الاحتلال، ومن في حمايتهم من المستوطنين، فيحسب هؤلاء وأولئك ألف حساب لقوةٍ فلسطينيةٍ مؤهلةٍ لتكون مفاوضا من أجل هدنةٍ أو تهدئةٍ، وهي القوة التي تبقى مبعث قلق أجهزة دولة الاحتلال وجيشه واستخباراته. بهذا المنطق، يمكن بناء صيغةٍ وطنيةٍ وسياسيةٍ لفعل المواجهة، سيما وأن المقاومة اتّصفت بالحكمة، ولم تكن يوما البادئة بإشعال أي حرب، وظلت إيجابيةً مع كل مقترحات وقف القتال، حفاظا على أرواح الفلسطينيين في غزة وغيرها، واتّسق أداؤها الميداني (الصاروخي) مع أداء المستوى السياسي الذي يمثّلها، ويحاور عواصم عربية وأجنبية وازنة، مباشرة أو غير مباشرة، (الأمم المتحدة تحاور "حماس" أيضا)، من أجل الإفادة سياسيا ووطنيا وحقوقيا وإعلاميا للشعب الفلسطيني. وبذلك، تتأكّد، للمرة المليون على الأقل، بديهية أنه ليس في وسع شعبٍ تحت الاحتلال أن يساجل العالم سياسيا لتحصيل حقوقه من دون الاتكاء على أداءٍ كفاحيٍّ ونضاليٍّ على الأرض.

لم يتبدّ الإعجاز الفلسطيني الذي تسبّب، مجدّدا، بانكشاف العجز الإسرائيلي إياه، فقط بالفعل الباهر الذي أدّته المقاومة، ممثلةً بكتائب القسام وشقيقاتٍ لها، بالصواريخ المفاجئة عددا وإمكانات وفاعلية، وإنما أيضا بالروحية الوطنية الجامعة لشعب فلسطين في عموم وطنه، من النهر إلى البحر، الأمر الذي لم يُعايَن منذ سنوات، وبالكيفية التي تتصدّر المشهد الوطني منذ منتصف شهر رمضان. وغزّة في مبادرتها إلى ضرب الاحتلال إنما لبّت نداءً من أهل القدس وهم يعتصمون ويتصدّون للمحتل، ويؤكّدون استحالة أن تتكرّر النكبة، عندما يواجهون قرار الاحتلال مصادرة بيوت أربع عائلات في حي الشيخ جرّاح المقدسي. وعندما ينادي أهل القدس غزّة وليس رئاسة السلطة الوطنية المقيمة في رام الله، فذلك يعني أن معادلات الحال الفلسطيني تغيّرت كثيرا، وأن ثمّة ما يُنبئ عن تغيراتٍ جوهريةٍ متوقعة، فالذي بعد 21 مايو/ أيار 2021 ليس كما قبله.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.