عبد السلام المجالي أو مسارات النخبة الأردنية وتحوّلاتها

08 يناير 2023
+ الخط -

يختصر زمن رئيس الوزراء الأردني، الراحل قبل أيام، عبد السلام المجالي، المولود في قرية الياروت (شمال الكرك) عام 1926، مساراً مكثفاً لنشأة (وأدوار) النخبة السياسية والعلمية والإدارية الأردنية، والتي نشأت في زمن الإمارة، وتواصل حضورها بعد الاستقلال.

من حيث القاعدة المؤسسة اجتماعياً، نشأ المجالي في عائلة ممتدّة حضوراً وتأثيراً من الزمن العثماني إلى زمن الإمارة ثم المملكة، إذ كان والده من طبقة الأفندية الأردنية يعمل جابياً في الكرك، ومنه تعلم الابن الكثير ورافقه في جولات الجباية، ومن بيت الشَّعر رحل إلى المدارس الإعداداية والثانوية في الكرك والسلط، ثم إلى جامعة دمشق حيث درس الطب، ثم إلى بريطانيا وزمالة كلية الجراحين الملكية، ثم الخدمة الطويلة في الجيش العربي وتأسيس الخدمات الطبية الملكية حتى التقاعد عام 1969.

نشأ إخوته مثله، وتعلموا في أفضل المدارس والجامعات، وتعاقبوا في مناصب عدّة، الوزير ونائب رئيس الوزراء والنائب عدة مرات عبد الوهاب، والمهندس عبد الهادي، أحد أهم ضباط الجيش وقادة الأمن العام ومن مطوّري سلاح الهندسة والسفير الأردني في واشنطن، والرجل الذي نادد وناكف واحتفظ بسدّة مجلس النواب رئيسا، بعدما حوّل صفته المركزية من رجل أمن إلى داعية حياة حزبية.

شقّ أبناء الأفندي عطا الله المجالي حضورهم داخل القبيلة والمجتمع المحلي والوطني، متجاوزين مشيخة العائلة، وأسسوا لشيء في الكرك اسمه مطبخ "الياروت السياسي" في القرية التي ولدوا ونشأوا فيها، ما جعل الناس يقولون إنهم محظوظون بما وصلوا إليه، وبما شكّلوه من حالة سياسية في حضورهم. ولا ينفي عبد السلام ذاته هذا الحظ عن سيرته، وينص عليه في مذكّراته "رحلة العمر... من بيت الشَّعر إلى سدّة الحكم" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2003)، معّدداً أوّليّاته؛ أول طبيب مسلم يدخل الجيش العربي، وأول طبيب يتولى رئاسة الجامعة الأردنية، وأول رئيس وزراء يوقع اتفاقاً مع الإسرائيليين ويرأس الوفد الأردني الفلسطيني المشترك في مؤتمر مدريد للسلام، تلك المهمّة التي أخذ الكثيرون عليه قبولها؛ لأنها برأيهم تجاوزٌ لمشاركته في معارك القدس عام 1948 حين كان في نهاية دراسته الطب في دمشق، لكنه دافع عن اتفاقية السلام باعتبارها خيار دولة.

ترك عبد السلام المجالي الجيش العربي ومؤسسة الخدمات الطبية الملكية التي أسهم بشكل كبير في تأسيسها عام 1969 متقاعدا، ليُعين بعدها وزيراً للصحة ووزير دولة لشؤون رئاسة الوزراء، ثم جاء إلى المحطة الأكثر أهمية في مساره الشخصي، وهي رئاسته الجامعة الأردنية بين الأعوام 1971- 1976 و1980 -1989، وكان للحقبتين في تاريخ الجامعة والتعليم العالي تأثير كبير، إذ استقدم النخبة العربية وأسّس كلية الطب، وأوجد نظام تعليم متميّزاً.

في رئاسته الأولى الجامعة بعد ناصر الدين الأسد، تعامل الراحل مع مؤثّرات أحداث أيلول (1970)، وتطور العمل الطلابي، لكنه غادرها وزيراً، لتنفجر الحركة الطلابية في أحداث الجامعة الأردنية عام 1978، ليعود المجالي بخيار الملك حسين الطارئ ليرتب أمورها رئيساً لجولة ثانية، شهدت الحركة الطلابية الأردنية في وسطها أحداث جامعة اليرموك عام 1986، وحينها كان شقيقه عبد الهادي مديراً للأمن العام، ولتنهي رئاسة المجالي في الجامعة الأردنية عام 1989، حيث سيكلف المجالي لاحقاً رئيساً للوفد الأردني الفلسطيني المشترك لمؤتمر مدريد عام 1991.

السمات الشخصية للمجالي محلّ توقف، اللباقة، والكبرياء والحسّ الوطني والقيادة، والابتعاد عن الأضواء والرؤية الثقابة لأهمية التعليم، مع سمعته بنظافة اليد التي لم يمسّها قول لمعارضة أو حراك شعبي

لعلّ كلّ مهمٍّ أحدثه المجالي للأردنيين كان قبل أن يتولّى رئاسة الحكومة مرّتين، فالحكومات لم تمنحه الكثير، ولم تُضف إلى سيرته الجديد، بل دخل في حكومتيه في علاقاتٍ متوتّرة مع النواب، إلى درجة أنّه نال الثقة في واحدة منها بفارق صوت واحد، تدخّل لصالحه فيه الملك الراحل الحسين. وفي الثانية، خرجت الحكومة بعد مشكلة في المياه في وزارة المهندس منذر حدّادين، أحد رفاقه في وفد مؤتمر السلام والمفاوض الشرس على حقوق المياه الأردنية مع إسرائيل.

في مطالعة تشكّل حكومتي المجالي، الأولى والثانية، يجد المدقّق أنّها ضمّت خبراء ومثقفين وأصدقاء. وبرغم أنّ الرجل كان يؤمن بالحوار، فإنّ الديمقراطية تراجعت في حكومتيه. أولاً: من حيث قانون الصوت الواحد عام 1993 الذي وأد التحوّل الديمقراطي الذي بدأ عام 1990، وثانياً: الخيارات المتعلّقة في حكوميته لملفّ وزارة الداخلية الذي أسنده لأكثر وزيرين محافظين في تاريخ الداخلية الأردنية، سلامة حماد ومدير المخابرات السابق الجنرال نذير رشيد، كما حافظ في التشكيل على أصدقائه ورفاق "مدريد"، أمثال جواد العناني وفايز الطراونه وكامل أبو جابر وسمير مطاوع، وجاء بوزراء مميّزين، أمثال ريما خلف الهنيدي ومحمود السمرة وغيرهما. وفي حكومته الثانية عام 1997، حدثت أزمة كبيرة، محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، في عمّان، والتي من أجلها رفع الملك حسين شعار "حياة هذا المواطن الأردني في كفة واتفاقية السلام في كفّة"، وكانت النتيجة إنقاذ حياة مشعل. وفي المقابل، رحيل حكومة المجالي التي أدار وزير الإعلام فيها الراحل سمير مطاوع ملفّها بارتباك. وربما كانت تشكيلاته الحكومية تلك متوافقة مع خيارات التمثيل الجهوي والأحمال الهوياتية لأي حكومة في الأردن، لكن ذلك كله لا يقلّل من شأن المجالي في الحضور عند الأردنيين، وفي التأثير بحياتهم وإحداث الفرق في مهماته الوطنية قبل أن يصبح رئيس حكومة.

ويمكن أن تكون السمات الشخصية للراحل المجالي محلّ توقف، اللباقة، والكبرياء والحسّ الوطني والقيادة، والابتعاد عن الأضواء والرؤية الثقابة لأهمية التعليم، مع سمعته بنظافة اليد التي لم يمسّها قول لمعارضة أو حراك شعبي. وتجعل هذه السمات القارئ يُفكّر كيف تكوّنت هذه الشخصية، التي بدأت بعثية الفكر وانتهت وطنية أردنية. وفي دمشق التي زامله فيها شقيقه عبد الوهاب وهزّاع المجالي وآخرون من أبناء الأفندية الأردنية، تكوّنت لديه ثقافة مدينية رفيعة، تعرّف خلالها إلى ميشيل عفلق وأعجب بخطاباته، وانخرط في تأسيس حزب البعث الذي سرعان ما غادره بسبب قناعته بأن الحزب لم يكن قادرا على أن يتمّم مشروعه أو شعاراته التي كان يطرحها. وقد دفع هذا الفراق مع "البعث" كأيديولوجيا إلى الذهاب إلى الأردن، والدخول في المؤسسة العسكرية والاختصاص في طب الأنف والأذن والحنجرة في لندن.

لعلّ كلّ مهمٍ أحدثه المجالي للأردنيين كان قبل أن يتولى رئاسة الحكومة مرتين، فالحكومات لم تمنحه الكثير، ولم تُضف إلى سيرته الجديد

بعد التقاعد بعام، جاءت أحداث أيلول 1970، فصار هناك تكثيفٌ في الدولة الأردنية للاستثمار في النخب التي تُنتجها المؤسّسات عوضا عن الأحزاب، خصوصا بعد أن تكرّس الفراق بينها وبين الحكم، عقب تجربة العام 1958 التي لم تأت أكلها في حكومةٍ حزبية، فبعد أيلول، صار الاختيار للنخبة التنفيذية يقوم على أساس الولاء أولًا، ثمّ الكفاءة. ولكون عبد السلام من عائلة معروفة بولائها لنظام الحكم، ومنها رموز وطنية أردنية معروفة. ونظرا إلى كفاءته ثانيًا، أسندت إليه، كما أسندت لأشقائه ولغيره من أبناء محافظته وللأردنيين، مهمّات وظيفية في ما يتعلق في البناء والتحديث وتطوير المؤسّسات، وتخلت الدولة عن شيءٍ كثير مما كانت تؤمن به في النخب التقدّمية، وتقدّمت واستطاعت أن تأتي بنخبٍ فريدةٍ في بعض المسارات، ونخبٍ أخرى لم يسعفها الإنجاز؛ لأنها كانت تنتمي لطبقة الموظفين الكبار، ولم تستطع أن تقدّم شيئا، كان القرار أن تأتي النخب من المؤسّسات مثل: الجامعة الأردنية والبنك المركزي والجيش والجمعية العلمية الملكية وأيضا الإدارة العامة. ومثل هذه النخب التي عمّقت الإنجازات، والتي استطاعت أن تُحدث الأثر من حيث الانتماء للصفوة السياسية والإدارية العميقة، هي التي حافظت على حضورها حتى حقبة الملك عبد الله الثاني، حيث دخلت نخبة متعلمّة متغربنة مع مزيج من البيروقراط الأردني.

كان عبد السلام المجالي، رحمه الله، يدرك أن الأداة السياسية الجادّة مع الحسّ القيادي النقدي أحياناً، في ظلّ حضور فاعل، كفيلة بأن تجعل المنافحة من أجل الدعوة إلى التغيير في الأردن ممكنة، لكنّ ذلك كله اصطدم في آخر عقدين بطروحاتٍ ليبرالية، وتعمّق الخصخصة وانسحاب الدولة من حياة الناس. وفي المقابل، زادت فجوة الثقة وضعف موقع رئيس الحكومة، ما جعل الملك الملاذ للناس، فغابت الحواجز، وتسترت الحكومات بالملك وتحصّنت به، فارتفع منسوب الغضب.

F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.