عبد الرحمن عبد الخالق .. مارتن لوثر السلفية
يعدّ الداعية المصري (الكويتي الجنسية)، عبد الرحمن عبد الخالق اليوسف، (1939 – 2020) الذي توفي في الكويت، الأسبوع الماضي، عن 81 عاما، من أهم رموز السلفية الإصلاحية المعاصرة، على امتداد أكثر من خمسة عقود مضت، مؤسسا للسلفية الحركية السياسية "الديمقراطية"، بإسهاماته العلمية التأصيلية والتجديدية لمنظومة الأفكار السلفية شديدة الممانعة لأفكار الحداثة السياسية جملة وتفصيلا. هو بحق مؤسس التيار السلفي الحركي والسياسي، باعتباره المنظّر الأبرز والأول لهذا التيار الذي احتل، هو الآخر، مساحة كبيرة في المشهد السياسي العربي الراهن، حيث تصدّر الشيخ عبد الخالق مرجعية هذا التيار منذ لحظة تأسيسه الأولى، باعتباره الأسبق في التأصيل الفقهي والشرعي لهذه الجماعات التي كانت تُحرّم كل ما له علاقة بالسياسة، وتعتبرها (السياسة) رجسا من عمل الشيطان، فما أحدثه الراحل في منظومة الأفكار السلفية يُعدّ فارقا وكبيرا، وأشبه بما أحدثه مارتن لوثر في الكاثوليكية. وقد مثّل دوره تحدّيا كبيرا لمنظومة الأفكار السلفية الجامدة، بالنظر إلى ما تمثّله السلفية التقليدية بوصفها سورا صلبا يحتمي بها الحكام وسلطاتهم الأبوية الاستبدادية، باعتبارهم ولاة أمور شعوبهم، وممثلي الله وظله على الأرض، في استبطانٍ لحكم ثيوقراطي واضح.
أهمية الجهد التحديثي الذي أحدثه الشيخ عبد الخالق في السلفية في أنه استهدف تفكيك منظومة الممانعة الفكرية لذهنية التحريم السلفية للسياسة، بأفكار من داخل المنظومة السلفية نفسها، خصوصا أن السلفية، بنسختها الوهابية، الأكثر سطوة وانتشارا، قد تم تصميم منظومتها الفكرية بقوالب وأفكار تؤسّس منظومة الإستبداد السياسي، بل تعزّزها، وتجعلها بمثابة الوضع الطبيعي للعلاقة القائمة بين الحكام والمحكومين، وأن هذه العلاقة غير الطبيعية هي دين الله الذي يجب اتباعه، وأن مخالفة الحاكم ولي الأمر ومعارضته مخالفة لأمر الله ومعصيته.
أهمية الجهد التحديثي الذي أحدثه الشيخ عبد الخالق في السلفية في أنه استهدف تفكيك منظومة الممانعة الفكرية لذهنية التحريم السلفية للسياسة
هذه المنظومة الاستبدادية التي مثلت حالة ارتدادية عن جوهر الإسلام الرافض للظلم والاستبداد، والقائم على الشورى والعدالة والمساواة والحرية، كلها يتم تقديمها في التصوّر السلفي الوهابي، خصوصا، أنها هي الإسلام، وكل خروج عن هذا التصور خروج بالضرورة عن الإسلام وكفر به، فتجريم العمل الجماعي، سلفيا، ومن ثم تحريم تشكيل الجمعيات وأي شكلٍ من العمل الجماعي، فالفكرة الرئيسية وراءها، هو ضرب جوهر الفكرة السياسية، وتجفيف منابع السياسة مجتمعيا، وحصر السياسة في الحاكم وحاشيته، وتجريم أي اقترابٍ من دائرة الشأن العام والعمل السياسي، باعتباره حراما لا يجوز ممارسته، عدا عن التفكير فيها، هذا التضخيم لذهنية التحريم للسياسة كلها تدور في دائرة تقديس الحاكم، وإهالة ضروب القداسة عليه، واعتباره ظل الله في الأرض الذي يعد معارضته عصيانا لله ذاته.
تحريم العمل الجماعي وتشكيل الجمعيات الخيرية هو بالأساس تحريم لأيٍّ من أشكال الاجتماع والعمل الجماعي الذي تستند (وتقوم) عليه فكرة الجماعات الإسلامية. وبالتالي تحريم هذا التوجه يعني، بالمفهوم السلفي، سد الذرائع أمام أيِّ شكل من العمل السياسي، جمعياتٍ كانت أو جماعات أو أحزابا، فكل هذه الصور هي بالضرورة تقود إلى الانخراط في السياسة، والتي تعني، في المفهوم السلفي، منازعة ولي الأمر، أي الحاكم أو الملك أو الأمير، أي رئيس الدولة. ومن هذا المنطلق، جاء التحريم والتجريم السلفي للديمقراطية واعتبارها كفرا صريحا، لأن الديمقراطية هي الأحزاب وصناديق الانتخابات، وهي من ثم منازعة ولي الأمر حقّه المطلق في الحكم. ولهذا تشكلت جماعاتٌ سلفية في هذا السياق، كالمدخلية والجامية التي تعلي من شأن ولي الأمر، وتعتبره ظل الله في الأرض، ولا تجوز منازعته، وإن ضرب ظهرك وهدّ دارك، بل وإن أظهر كفرا بواحا وعلى شاشة التلفزة وسكر وزنى نصف ساعة على الهواء مباشرة، بحسب الشيخ الجامي السعودي، عبد العزيز الريّس.
تحريم أشكال الإجتماع والعمل الجماعي يعني، بالمفهوم السلفي، سد الذرائع أمام أيِّ شكل من العمل السياسي
كل أفكار هذه المنظومة فكفكها الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، ومن داخل المنظومة السلفية ذاتها، في كتابيه "مشروعية العمل الجماعي" و"أصول الدعوة السلفية"، وصولا إلى كتابه "المسلمون والعمل السياسي"، وكلها مقارباتٌ تفكك (وتهدم) منظومة الأفكار السلفية المحرّمة للسياسة والعمل الجماعي والسياسي والديمقراطية والأحزاب. ولم يقف الشيخ هنا، بل ذهب بعيدا، في القول إن الديمقراطية صحيحٌ إنها ليست من الإسلام، ولكن المسلمين إذا خيروا بين الديمقراطية والإستبداد السياسي فحتما سيختارون الديمقراطية، لأنها تسمح لهم بممارسة كامل حريتهم وتدينهم وأعمالهم تحتها على عكس الإستبداد السياسي الذي يصادر كل حريات الناس ويستعبدهم، ولذلك الديمقراطية خير من الإستبداد السياسي.
ولهذا كله، ساهم وجود الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في الحياة السياسية الديمقراطية في الكويت التي تعتبر بحق جزيرة الديمقراطية في الخليج، في تعزيزها وتعضيدها، بفكره الإصلاحي الذي قارع منظومة الإستبداد السياسي بمنظومته السلفية التي شرعنته وعزّزته الأفكار السلفية الوهابية التي تسيطر على هذا التيار في الخليج خصوصا، والعالم العربي عموما. وبهذا القدر من التأصيل الشرعي والفقهي داخل المنظومة السلفية للعمل السياسي الذي قام به الشيخ عبد الخالق جعله أشبه بما أحدثه مارتن لوثر (1483 – 1546) داخل الكاثوليكية، فبفعل تنظيراته الشرعية، دفع الشيخ بالسلفية من سلفية ذيل بغلة السلطان، كما يحب بعضهم أن يسميها، إلى سلفية إصلاحية ترى أن السياسة مثل الدعوة والتربية، ومكملة لهما في أي جهد أو عملية إصلاحية للمجتمع والسلطان معا. بل الأهم فيما قام به عبد الخالق، داخل المنظومة السلفية، أنه واجه فكرتين سلفيتين مركزيتين في آن: السلفية المقدّسة للسلطان، كالجامية المدخلية، والمنابذة للسلطان والدولة معا، وهي السلفية الجهادية التي تفتقت عنها كل من القاعدة و"داعش"، وكلا الفكرتين، القاعدية والجامية، تحرّمان العمل السياسي، وتكفران بالديمقراطية شكلا ومضمونا وتستبيحان دم كل مسلم ينادي بها. ومن هنا تأتي أهمية الجهد الإصلاحي الكبير الذي أحدثه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، داخل السياق السلفي، والذي ساهم في نقل السلفية من ماضويتها وتوحشها وتصلبها الفكري إلى عصر الديمقراطية والتعدّد الفكري والثقافي والسياسي، والإندماج بالعصر واللحاق به، وأن هذا لن يتأتّى من تقديس الحاكم ولا من منابذته ومقاتلته. وبالتالي، يمكن الإصلاح من خلال السير في دروب المدافعة السياسية بالديمقراطية وأدواتها التي تقود حتما إلى إصلاح سياسي متدرّج وشامل داخل المجتمع، وبأدواته السلمية والمعاصرة من الأحزاب، فالإنتخابات فالبرلمان فالحكومة فالمعارضة، هذه الأفكار الإصلاحية التي تفجّرت بعد عقود ثورات الربيع العربي من أجلها.
ما أحدثه في منظومة الأفكار السلفية يُعدّ فارقا وكبيرا، وأشبه بما أحدثه مارتن لوثر في الكاثوليكية
صحيحٌ أن الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق لم يكن وحيدا في هذا السياق، وكان بجانبه السوري الشيخ محمد سرور زين العابدين (1938 – 2016)، لكنه كان الأسبق والأقدر في تفكيك منظومة الأفكار السلفية المتصلبة والجامدة، بفعل دراسته على يد شيوخ السلفية الكبار، كناصر الدين الألباني، وعبد العزيز بن باز، ومحمد بن إبراهيم، وغيرهم من شيوخ السلفية. عدا عن ذلك، ربما كان لخلفيتيهما الإخوانية، هو والشيخ سرور، دور كبير في فكرهما الإصلاحي، وبالتالي أحدثا ما لم يستطع أحد إحداثه داخل منظومة الأفكار السلفية.
بعد رحلة طويلة حافلة بالعطاء الفكري والدعوي والفقهي، أخلد الشيخ إلى باريه، تاركا وراءه تركةً كبيرةً وثقيلةً على أتباعه من الأعمال والمحاضرات والمؤلفات التي يعتمد عليها جمهور كبير من سلفيي العالم الإسلامي، كمرجعية فكرية وشرعية لهم، هذا التيار الذي عاش مخاضا صعبا في الانتقال من الدعوي إلى السياسي، فالشأن العام الذي كان يعدّ الخوض فيه ليس من أصول الدين، ولا من فروعه، وإنما فسق وحزبية مقيتة بحسب المرجعيات السلفية الوهّابية التي تعيش اليوم، هي الأخرى، مأزقا وجوديا حقيقيا في ظل الصراع السياسي داخل المملكة السعودية التي تريد مغادرة مربع وصمها بالمملكة السلفية الوهابية إلى مملكة حديثة، يرى القائمون عليها أن طريقها لذلك ليس بالإصلاح السياسي المتدرّج والمتأني، ولكن بنسف كل ماضيها بدون بديل واضح المعالم للمستقبل المنشود.