عبث إحياء نظرية المؤامرة
في هذه الأيام المليئة بالارتدادات الزلزالية، المثقلة بالأحزان المبرحة، يحاول بعضُهم عبثاً إيقاظ نظرية المؤامرة من سباتها العميق، تلك التي كانت، فيما مضى من زمن قصير، من أهم أدوات المقاربة المعمول بها لدى بعض المحللين وأبواق السلطات الاستبدادية في العالم العربي، لفهم مجريات الأحداث وتعليل الوقائع وسبر غور التطوّرات، حيث صارت هذه النظرية المستقرّة عميقاً في الوعي العام أكثر أدوات القراءة شيوعاً لدى عامّة الناس، الذين يميلون، بطبعهم، إلى تبسيط المسائل وتهوين المشكلات وتقزيم التحدّيات المحدقة بهم، ومن ثم استسهال تحميل المصاعب إلى جهة خارجية، عادة ما تكون عدواً بائناً، لا خلاف على مكره وتربّصه الدائمين بالبلاد والعباد.
ومع أن لنظرية المؤامرة ما يبرّرها في أحيانٍ كثيرة، ولديها قدرة على التماسك والشيوع والنفاذ ضد أجزل الطروحات القائمة على التحليل الموضوعي، والمحاكمة الرصينة للدوافع والعوامل والغايات، إلا أنها ظلّت تكتسب، في أوقات الشدة والأزمات، مزيداً من الأرض والجمهور الأكثر انفعالاً واستعداداً لتصديق جل ما يروّجه من حكايات من دون إعمال العقل، وتقبل ما يسري من إشاعاتٍ بلا نقاش، الأمر الذي كان يفسح المجال واسعاً أمام نظرية المؤامرة الهادفة إلى إضعاف الجبهة الداخلية، وضرب الوحدة الوطنية.
استمدّت نظرية المؤامرة كامل زخمها في المرحلة السياسية العربية السابقة التي كانت مشحونة برياح التغيير والإصلاح، حيث راح المطبّلون وأولو الأمر يروجونها على رؤوس الأشهاد، ويرون فيها وحدها المحرّك لمظاهر الاحتجاج، ويتمترسون خلف منطقها المتهافت لمنع كل دعوةٍ محقة إلى إلغاء قوانين طوارئ هنا، أو تعديل مراسيم تكبت الحريات هناك، حتى غدت هذه النظرية البائسة وكأنها خشبة الخلاص الأخيرة لكل مستبدٍّ لا يرى الواقع إلا من منظور أمني ضيق، يوفر له مزيداً من المراوغة والتشبث والعناد.
نتذكّر أنه جرى في بدايات الربيع العربي رفع علم نظرية المؤامرة إلى عنان السماء، في تونس أولاً، وفي مصر ثانياً، غير أن هذه الخرقة لم تتمكن في نهاية مطاف ضئيل من تغطية شمس الحقيقة الساطعة في رابعة النهار، كما جرى استخدام هذه "النظرية" على نحو أكثر فجاجة في ليبيا التي أحال طاغيتها سبب الثورة الشعبية إلى تنظيم القاعدة، ثم في اليمن أيضاً (مؤامرة أميركية تديرها غرفة عمليات في تل أبيب)، وبعد ذلك في سورية وفق تجليات الخطاب الإعلامي الذي ما زال سائدا. وهكذا لم تسلم حركة تغيير وإصلاح من هذه التهمة المشينة، بل استخدمت هذه النظرية السقيمة قوى الثورة المضادّة أخيراً.
وليس من شكّ في أن الأعداء في الخارج متآمرون بطبعهم، ويدسّون الدسائس بلا توقف كعادتهم، ويحاولون اختراق الجبهات الداخلية كلما تسنّى لهم ذلك، إلا أن استناد رافضي التغيير على هذا الحائط المائل، أو قل على هذا المشجب النموذجي لتعليق معارضتهم الإصلاح، وكثرة إلصاق تهمة انسياق قوى الحراك الاجتماعي مع المتآمرين في الخارج، أدّى، في واقع الأمر، إلى ابتذال ها الطرح، ومن ثمّة تقويض أركان هذه النظرية، بل وزاد من تهافت خطاب القائلين بها، الأمر الذي أدّى إلى نتائج عكسية مباشرة، في مقدمتها زيادة عزلة أصحاب نظرية المؤامرة وتفاقم انقطاعهم عن الواقع الملموس.
ولعل ردود الفعل التي عبّرت عنها مختلف القوى السياسية ومعظم النخب الثقافية، ناهيك عن قطاعات واسعة من أوساط الرأي العام، على أطروحة نظرية المؤامرة، في حينه، تلك التي توالى سقوطُها المدوّي في أكثر من عاصمة عربية، وتكرّر دحضها بالوقائع الجارية على الأرض، تقدّم أفضل دليل إثباتٍ على ذواء هذه النظرية، وأفول شمس سادتها المتدثّرين بكل ذريعة، لمواجهة حركات اجتماعية شابة، من قوى وأحزاب سياسية مختلفة، لكنها متفقة فيما بينها على وجوب تحقيق الحرية والديمقراطية، مهما كانت التضحيات.
نقول هذا وفي الذهن عشرات الأمثلة على خواء نظرية المؤامرة التي لا تود أن تموت، غير أن عودتها إلى الرواج في وقت متزامن مع زلزال القرن، قبل أكثر من أسبوع، بما في ذلك زعم أن هذه الكارثة الطبيعية من صنع أميركا، أو الصهيونية، باعتبارهما مصدري الشرور في هذا الكون الواسع، قد حملنا حملاً على التنديد بها وبدعاتها القدامى/ الجدد، ممن لا يتورّعون عن الرجوع إلى نظرية المؤامرة كلما دقّ الكوز في الجرّة، حتى وإن كانت الجرّة هزة أرضية حدثت على مر العصور، قبل اكتشاف أميركا، وبالطبع قبل نشأة إسرائيل.