عالقون بالسياج
لا أعتقد أن قرار الحكومة الكويتية بصرف ثلاث دجاجات لكل مواطن شهريًّا جاء من باب المماحكة للشعب الأردني الذي قرّر، منذ فترة، الامتناع عن شراء الدجاج جرّاء ارتفاع أسعاره؛ لحمل تجار الدواجن على العودة عن قرار الرفع. والأرجح أن تزامن القرارين كان محض مصادفة، أملتها اعتبارات متباينة بين من يملك ومن لا يملك.. بين "من يأكل الدجاج ومن يعلق بالسياج".
العبارة السابقة مثلٌ شعبيٌّ دارج في الأردن، قيل قديمًا للدلالة على الفروق الطبقية بين شريحتين في المجتمع، طرفها الأول معروف، والمقصود به "من يأكل الدجاج". أما من "يعلق بالسياج" فهو المواطن الذي ينفق عمره مشاهدًا حظائر الدجاج من خلف السياج المتين الذي لم يفلح دخله الشهريّ في فكّ ولو فرجة يسيرة بين أسلاكه، ليستلّ منها دجاجة واحدة، ثم عندما يقرّر اقتحام السياج يعلق به، ويظلّ هناك معلّقًا على أمل النفاذ يومًا إلى فردوس الحظيرة، لكن بلا جدوى؛ لأنه كلما اجتاز سياجًا باغته سياج آخر أمتن وأعلى، وكلما تمكّن من ادّخار ثمن دجاجة فوجئ بأن سعرها الجديد اجتاز حاجز الضوء.
والحال أن قرار مقاطعة الدجاج في الأردن يتخذ، هذه المرّة، نكهة خاصة، فالتجار الذين لم يأخذوا تهديد المستهلكين على محمل الجدّ لدى بدء انطلاق الحملة، بات يساورهم القلق تاليًا، عندما شعروا بأن دائرة المقاطعة آخذةٌ بالتوسّع، ويشارك فيها نواب (أحدهم عمد قبل أيام إلى تصوير نفسه في بثّ حيّ وهو يأكل طبق "ملوخية" بلا دجاج، ويحضّ الشعب على محاكاته)، فيما بدأت محلات بيع دجاج بإغلاق أبوابها مع تعليق لافتةٍ تتعهد بدوام الإغلاق حتى ينخفض سعر الدجاج، غير أن الطرافة الحقيقية تمثّلت بأحد المطاعم الشهيرة بصنع "المسخّن" الذي يقوم أساسًا على أرغفة مضمّخة بالزيت وقطع الدجاج والبصل، إذ قرّر هذا المطعم أن يقدّم الأرغفة "مطهّرة" من الدجاج كله. وفي المحصّلة، تفيد إحصاءات بأن نصف الشعب الأردني استجاب لحملة المقاطعة، مع استحضار شعار لحملة قديمة مماثلة عنوانها "خلّيه يكاكي".
لا أدري كيف وقع نبأ القرار الكويتي السابق في نفوس الأردنيين "العالقين في السياج" حاليًّا، والحال أنني توقعتُ أن تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات عليه، سيما وأن الشعب الأردني برهن فعليًّا أنه صاحب نكتة من الطراز الأول، على خلاف ما هو معهود عنه، وتجلّى ذلك في أيام الحظر بسبب كورونا، كأن يقول أحدهم: "اللهمّ إني صائم"، على اعتبار أن العرض الكويتي يتزامن مع صيام الأردنيين عن الدجاج، غير أن شيئًا من ذلك لم يحدُث.
أرجّح أن مقاطعة الأردنيين الدجاج، هذه المرّة، تتّخذ طابعًا سياسيًّا أشبه ما يكون بالعصيان المدني ضدّ ما هو أوسع من مجرّد رفع سعر الدجاج، فقد طاولت الارتفاعات سلعًا كثيرة في السنوات الأخيرة، ومنها الخبز الذي يعدّ السلعة الأساسية لدى معظم شعوب الأرض، لكن من دون أن تواجَه بأي نوع من المقاطعة أو حتى الاحتجاج.
من الواضح أن ثمّة تحوّلًا جديدًا لدى الشعب تُظهره مقاطعة الدجاج، وكأن هذا الشعب يفرّ من الحظائر نفسها التي اكتشف أنه حشر بها منذ زمن، فثمّة سياسات عديدة تقرّر وتمرّر في غفلة منه، ليس أقلها ما أقرّه مجلس النواب، أخيرًا، بشأن "مجلس الأمن القومي" الذي يمتلك صلاحيات فرعونية كفيلة بقلب الطنجرة رأسًا على عقب، وثمّة اعتقالات تطاول أصحاب الرأي تناقض أيّ ثرثرة تقال عن التوجّه الإصلاحي الجديد، وثمّة تحالفاتٌ تعقد في الظلّ، وقواعد تقام، وأخرى تعزّز على أرضه.
واضح أن الشعب، هذه المرّة، لن يعلق بأيّ سياج، لأنه تمرّد على أخلاق الدجاج.