عاصفة "بيت حُدُد"

02 مارس 2018
+ الخط -
لم تنكتب هذه المقالة عن رواية السوري، فادي عزام، "بيت حُدُد" (دار الآداب، بيروت، 2017)، لأن السلطة في الأردن حظرت توزيعها وتداولها، وقد ماثلت هذه السلطة في فعلتِها المستهجنةِ هذه نظيرتَها في الإمارات. ولا لأن الرواية أطلت، أخيرا، في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر). ولا لأن زوبعةً ثارت، أخيرا، بشأنها، بعد أن تبيّن أن كاتبها اقتبس جملا معدودةً فيها من يومياتٍ لطبيبٍ سجينٍ سوريٍّ سابق، ثم أعلن خطأه في عدم الإشارة إلى ذلك، وكتب إنه سيحذف تلك الجمل في الطبعة الثانية. إنما المقالة هي لإشهار اجتهادٍ، هنا، مفادُه بأن في الوسع أن ينكتب، بارتياحٍ ومن دون تحوّط، أن "بيت حُدُد" تحرز موقعا متقدّما بين روايات الكتاب السوريين الجديدة التي انشغلت بالجائحة الماثلة في بلدهم. وقد بات جائزا أن يُتحدّثَ عن متنٍ روائيٍّ سوريٍّ جديد، يُراكم، نوعا وكمّا، منتوجا متنوّع المستويات الفنية والإبداعية، يعتني بالحالة السورية العويصة الراهنة. والظاهر أن هذا المنتوج صار، بفعل التعقيد في مستجدّات المشهد السوري العام، أكثر انتباها إلى مختلف التفاصيل المتصلة بهذا المشهد، فبطشُ نظام الاستبداد في دمشق ليس وحده الموضوع "المغري" للكتابة، أو الأدْعى للتعبير عن العذابات التي يسبّبها، وإنما ثمّة، أيضا، الإرهابُ الشنيعُ الذي تتعدّد أذرعه وإماراته وتشكيلاتُه وفظاعاته، وثمّة النزوحُ واللجوء المعلومان. وقبل هذا كله وغيره، ثمّة الإنسان السوري الذي لم يعد من كنّا نعرفه قبل الثورة وما أعقبها من تهديمٍ في المجتمع لا يتوقف. 

إذن، على من "يغامر" بالسفر في المتاهة السورية المرّة، وفي صنوف القتل والتحطيم المهولة في أثنائها، أي بمحاولة إنجاز عملٍ إبداعيٍّ عنها، أن يعرف أن التحدّي قدّامه ثقيل. وإذا كانت الرواية الغواية الأكثر جاذبيةً هنا، ربما لأن مقروئيتها أعلى من أجناسٍ أدبية أخرى، فإن على من يُزاولها، في الموضوع السوري، أن يلعبها جيدا، فالقضية العادلة لا تشفع لأي أدبٍ عنها سويةً في منزلةٍ دنيا.
ولكن، لماذا كل هذا الاسترسال، قبل المجيء على "بيت حُدُد"؟ ببساطةٍ، لأن فادي عزّام غامر في هذا الرهان، الإبداعي الفني أساسا، وأحرز فيه نجاحا مهما، فقد أنجز عملا روائيا تركيبيا، متنوّع الأصوات، التوتر في السرد فيه عالٍ، الإيقاعُ المتمهل ثم السريع يُحدِثُ انشداد القارئ إلى المسار العام للرواية. الثورة السورية المغدورة حاضرةٌ في طوريْها، السلمي ثم المسلح، كما الإرهاب الذي تقترفه السلطة، وتسلّطها وتجبّرها، وكذا إرهاب عصابات "داعش" وأشباهها وأشباحها. وإذا جاز تعيين حكايتين مركزيتين في الرواية تتقاطعان وتفترقان، فإن حكاياتٍ عديدةً تتفرع منهما، تلتقي خيوطٌ تتناسل منها، بتشابكاتٍ سرديةٍ موفقة، وبتنويعاتٍ نابهةٍ في طرائق الحكي، ومناوباتٍ بين ضمائر الأنا والمتكلم والغائب، في انتقالاتٍ يلمّها تضفيرٌ يربط كل هذا القص في مرسلة العمل الأساس، أي إدانة التوحش، والتعبير عن حطام الذات الفردية، الموزّعة بين خياراتٍ متناقضة. يكاد فادي عزام يقول إن السوري، عموما ربما، مزدوجٌ، حائرٌ، تائه، أكان في بلده أم في أي مطرح. ومطارح الرواية دبي ولندن ودمشق، وهذه ليست فضاءاتٍ مكانيةً فقط، وإنما زمانيةٌ أيضا، بل ونفسيةٌ ووجدانيةٌ كما تنبئ عن ذلك مناخات التعبير في هذه المدن المتعاكسة الأجواء، بين برودٍ ودفء، وشحوبٍ وبهجة، وغير ذلك مما أحسن تداعي التذكّر والحلمي والتقطيع والتشخيص في قوله، إيحاءً أو مباشرةً، وفي الإحالات بين هذا كله إلى ماضٍ شديد الوطأة على حاضرٍ مشوّش، ومستقبلٍ بلا ملامح، وخلاصٍ مشتهى، لتبدو الرواية، في أفقها العام، تراجيديةً، ذلك أنها مشغولةٌ، إلى حدٍّ بعيد، بمصائر أخيرةٍ لشخصياتها العديدة، بل لسورية كلها الذاهبة إلى ما تريده السكاكين الطويلة فيها.
لا يحسُن أي حديثٍ عن "بيت حُدُد" بإيجازها، ليس فقط لأن كل إيجاز، غالبا، مخلّ، وإنما أيضا لأن الأنفاس الحارّة لشخصياتها عصيةٌ على أي إيجاز، كما أن إله الأمطار والعواصف في الأساطير الرافدية والسورية القديمة، حُدُد، والذي يتسمّى به بيتٌ عتيقٌ في الرواية، يظلّل حوافّ النص ومُضمراتِه. ولأن البيت يُباع قسرا، ويُنهب، كما تُنهب، وتُستباح، حيواتُ فيديل وأنيس وليل وسامية وغيرهم من ناس فادي عزام، فإنك تغادر الرواية بعد قراءتها، وعاصفةٌ مالحةٌ منها تمرُق في أخيلتك ووجدانك، سؤالها: سورية.. ماذا بعد؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.