عار الأسديّة الذي سيبقى يلاحق أوجلان وحزبه
"كلُّ مؤثرٍ دمويٍّ جزءٌ من وجوبِ الرّحيل حلاًّ" هكذا اختتم الشّاعر والرّوائي الكُردي السّوري؛ سليم بركات مقالاً كتبّهُ، تحت عنوان "سوريا وأكرادها"، نشرته صحيفة القدس العربي يوم 5/10/2012، مخاطبًا حزب العمّال الكردستاني، باعتبارهِ فرض نفسهُ بمعيّة ودعم النّظام السّوري، وصار مؤثّرًا بشكل دموي في الميدان السّوري، كُرديًّا وعربيًّا. وعليه، وجوب رحيل الكردستاني بات جزءًا من وجوب رحيل داعمه وسندهِ؛ نظام الأسد، إذا كنّا ننشد الحلّ، وفق ما نفهمه من مقولة بركات الذي وَصَفَ فرعَ الكردستاني (السوري)؛ حزب الاتحاد الديمقراطي، في مقاله المذكور بـ"عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقب كردي" و"فرع بعث أوجلان الكردستاني"، وكالَ نقدًا شديدًا غاضبًا حانقًا لـ"العمّال الكردستاني" وسلوكه الوثني ونصبهِ أصنامَ أوجلان في المدن الكرديّة السّوريّة. كان ذلك المقال ذا وقع مزلزل، نظرًا إلى الوزن الثقافي والأدبي الكبير لصاحبه، إلاّ أنّه جرّ على بركات طوفانًا من الشّتائم والتّخوين والتّجريد من كرديّته، وصار أيّ كاتبٍ أو كاتبة من الدّرجة العاشرة، من الموالين للعمّال الكردستاني، يسمحُ لنفسهِ بالتطاول على قامة بركات وتجربته الأدبيّة، ومقامه الثقافي الهام والمعروف. وكلّ هجوم وتطاول، من كَتبةِ الحشد الأوجلاني (السّوري تحديدا) كان الأمر مقرونًا بنفي علاقة العمّال الكردستاني بنظام الأسدين؛ الأب والابن! وإنّ بركات افترى على الحقيقة! وعبدالله أوجلان كان من الحنكة والدهاء بمكان أنّه خدع نظام حافظ الأسد، واستفاد من التناقضات بين أنقرة ودمشق، لصالح القضيّة الكرديّة في سورية. بهذه الطريقة المتهافتة، والكاريكاتوريّة الظريفة، كان أنصار حزب أوجلان يدفنون رؤوسهم في عار الأسديّة، ويحوّلونها إلى انتصار أوجلاني على نظام حافظ الأسد.
كيف لهذا الحزب شطب ومسح المدائح المتهافتة والمبتذلة التي كان يكيلها أوجلان وحزبه لنظام الأسد الأب والابن، من أدبيات الحزب؟. ... "لقد رحل مؤسس سوريا الحديثة، وقائد الأمّة العربيّة، صديق الشّعب الكردي، السّياسي المرموق في المنطقة والعالم، السيّد الرّئيس حافظ الأسد في هذه المرحلة الحسّاسة جدًا. وإننا نشعر ببالغ الحزن والأسى، ونتقدّم بعزائنا باسم أميننا العام الرفيق عبدالله أوجلان، وباسم حزبنا، إلى المسؤولين في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، وإلى أسرته والشّعب السّوري بعربه وأكراده، وإلى العالم العربي وشعوب المنطقة، ونتقاسم مع أسرته والشّعب العربي، آلامهُ وحزنهُ (...) الصّداقة التي أبداها الرّاحل لنضال الشّعب الكردي، باتت أمرًا يعرفه الجميع (...) نحن واثقون بأنّ الشّعب السوري سيكون قادرًا على ملء الفراغ الناجم من رحيل الرّئيس الأسد في وقتٍ قصير، ويتّخذ من المبادئ التي تبنّاها في حياته (الأسد) أساسًا له (الشّعب) وسيطوّرها ليصل إلى الجمهوريّة الديمقراطيّة". هذا النّعي الذي اقتبستُ منه هذه العبارات أصدره حزب العمّال الكردستاني في 11 يونيو/ حزيران 2000. ومنشور في الصفحة 21 من العدد 38، صيف 2000، من مجلّة "صوت كردستان" التي كان يصدرها الحزب من دمشق. هناك نسخة من ذلك النعي باللّغة التركيّة، منشورة في الصّفحة الأولى من العدد 222 لجريدة "سرخوبون" الناطقة باسم الحزب، والتي تصدُر في ألمانيا. والمطبوعتان كلتاهما، "صوت كردستان" و"سرخوبون"، من أبزر إصدارات "العمّال الكردستاني".
ما صدر عن بعض المعارضين السّوريين من تصريحات غير مقبولة وعنصريّة تجاه الكرد السوريين، سبقهم في قولها عبد الله أوجلان، كي يرضى عنه نظام حافظ الأسد
صدر العدد المذكور من "صوت كردستان" بالأبيض والأسود، تعبيرًا عن حزن وحداد الحزب الأوجلاني على فقدان الأسد الأب. وعلى الغلاف، صورة لحافظ الأسد. وفي الغلاف الداخلي، صورة أخرى له مكتوب تحتها "إلى جنان الخلد يا حافظ الأسد". يقابلها صورة لبشار الأسد، إلى جوارها، عبارة "المسيرة مستمرّة"! وفي العدد نفسه مقال بعنوان "القائد الأسد في ذمّة الخلود" (ص20). كذلك هناك نعي آخر منشور في المجلّة، أصدره المؤتمر الوطني الكردستاني (KNK)، تحت عنوان "خسارة كبيرة للأخوّة العربيّة الكرديّة" (ص22)، جاء فيه: "وفاة الأسد هي خسارة كبيرة للسّلام في الشّرق الأوسط، ولأخوّة الشّعبين العربي والكردي (...) نتقدّم بتعازينا القلبيّة الحارّة إلى أسرة الرّئيس الأسد والشّعب السّوري وكلّ العالم العربي".
كذلك هناك مقال منشور تحت عنوان "بداية عهد جديد في تاريخ الشرق الأوسط" (ص24-25)، تضمّن ترحيبًا بتولّي بشّار الأسد منصب والده، ومديحًا رهيبًا له، وتبشيرًا بدوره وقيادته. نقرأ في المقال: "لم يأت اختيار الفريق بشّار الأسد من قبل ممثّلي الشّعب والجيش والحزب ليكون قائدًا لبداية عهد في تاريخ سوريا والشّرق الأوسط، وليد صدفة. فالكلّ يعرف أنّ الفريق بشّار الأسد ترعرع وتخرّج من مدرسة والده الرّئيس حافظ الأسد الذي صنع مقوّمات سوريا الحديثة واستقرارها السّياسي والاقتصادي وصمودها الذي لا يلين في مواجهة الأزمات الإقليميّة والدوليّة (...) الدكتور بشّار الأسد يتمتّع بذكاء مرهف، ويتصف بالتواضع والرّغبة في التعلّم والعطاء، ويلعب دورًا مهمًّا في نشر ثقافة الكمبيوتر".
"تلقّى أبناء شعبنا الكردستاني ببالغ اللوعة والحزن والأسى نبأ رحيل الفارس الرّائد الرّكن المهندس باسل الأسد. حيث إن رحيل الفقيد يعتبر خسارة كبيرة ليس فقط للشّعب العربي وإنّما للشّعب الكردي ولجميع شعوب المنطقة. بهذه المناسبة الأليمة والمصاب الجلل، تتقدّم مجلّة صوت كردستان إلى سيادة الرّئيس حافظ الأسد، رئيس الجمهوريّة العربيّة السّوريّة، وإلى أسرته الكريمة وذويه وإلى كلّ الشّعب السّوري الصّديق بأحرِّ التعازي القلبيّة، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يغمد الفقيد برحمته وأن يسكنه فسيح جنانه ويلهم أهله الصّبر والسّلوان". هكذا نعى العمّال الكردستاني، نجل حافظ الأسد، في العدد 21، الصفحة 45 من مجلّته "صوت كردستان". وقتذاك، كان أوجلان في دمشق. وأصدر تعليمات لقواعده وجماهيره الحزبيّة في سورية، بضرورة عدم الاحتفال بعيد النّوروز سنة 1994، حدادًا على موت باسل الأسد.
الفرع السّوري لحزب العمّال الكردستاني، كان ولمّا يزل يحاول أن يحجز لنفسه مكانًا على مقاعد المعارضة السوريّة، بينما رأس الحزب (الكردستاني)، يديره النّظامان في طهران ودمشق
ربّما يخفى على كثيرين، كردًا وعربًا؛ أنّ العمّال الكردستاني، أعلن عن مدائحه لحافظ الأسد ونظامه، منذ سنة 1986. ففي الصفحة 11 من العدد 60، ديسمبر/ كانون الأوّل 1986، من جريدة "سرخوبون" (Serxwebûn)، الناطقة باللغة التركيّة، ولسان حال الحزب، أفرد الأخير صفحة كاملة للحديث عن دور سورية ونظام حافظ الأسد في مواجهة مؤامرات الإمبرياليّة، مرفقة بصورة للأسد الأب! بينما مجلة "صوت كردستان" الناطقة بالعربيّة، سبقت زميلتها "سرخوبون" في مدح نظام الأسد، وذلك في الصفحة 57 من العدد المزدوج (4 - 5) الصادر في 20/10/1986، بمقال تحت عنوان "لنصعّد المقاومة الثوريّة ضدّ الهجمات الإمبرياليّة المتزايدة على شعوب المنطقة وعلى سوريا" جاء فيه: "لسوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد، دور ومكانة بارزة في النضال ضدّ الامبرياليّة القوى الرّجعيّة العميلة في الشّرق الأوسط (...) تحظى القوى الثوريّة التقدميّة في المنطقة بدعم ومساندة كبير من سوريا بقيادة الرّئيس حافظ الأسد". وفضلاً عن المدائح المتهافتة في الأسد الأب ونظامه، ثمّة تأكيد شديد في المقال على حتميّة تخندق العمّال الكردستاني في خندق النّظام السّوري ضدّ الهجمات الامبرياليّة والرّجعيّة والصّهيونيّة، على أنّ تلك الهجمات لا تستهدف نظام الأسد وحسب، بل كل القوى الثوريّة التقدميّة، ومنها الكردستاني.
كلّ ذلك المديح الأوجلاني الرّخيص لنظام الأسد الأب، رغم عدم اعتراف الأخير بوجود شعب كردي في سورية، بل تجريدهِ عشرات ألوف الكرد السوريين من الجنسيّة السوريّة، وملاحقة النشطاء السّياسيين والثّقافيين الكرد، وفرضهِ مشروع الحزام العربي، بهدف تعريب المناطق الكرديّة في الشّمال السوري، وإحداث تغيير ديموغرافي هناك.
الأنكى من ذلك كله أنّ دمشق شهدت، في 21 مارس/ آذار 1986، مظاهرة كرديّة شارك فيها الآلاف، سارت نحو القصر الجمهوري، احتجاجًا على منع الاحتفال بعيد النوروز. فأطلق الأمن السّوري الرّصاص الحي على المتظاهرين، وقتلَ شابًا كرديًّا اسمه سليمان آدي. وعليه؛ لا أعتقد أن تزامن بداية المدائح الأوجلانيّة في "الحافظ أسديّة"، مع جريمة قتل سليمان آدّي في دمشق سنة 1986 محض مصادفة.
كان أوجلان في دمشق. وأصدر تعليمات لقواعده وجماهيره الحزبيّة في سورية، بضرورة عدم الاحتفال بعيد النّوروز سنة 1994، حداداً على موت باسل الأسد
وأحيانًا تصدر من بعض رموز المعارضة السوريّة تصريحات تحاول نفي وجود شعب كردي في سورية، أو إنكار أنّ الكرد؛ ثاني قوميّة في البلاد، أو أنّ هناك جزءاً من كردستان في سورية، فتثور ثائرة النخب السّياسيّة والثقافيّة الكرديّة السّوريّة. لكن، تلك النخوة والحميّة والشّعور القومي المتوتّر، نراه شبه معدوم، ولا يدعو إلى محاسبة عبد الله أوجلان على التصريحات التي أطلقها في حواره المطوّل مع الكاتب والرّوائي السّوري نبيل ملحم سنة 1996، والمنشور في كتاب "قائد وشعب: سبعة أيّام مع آبو"، تلك التصريحات التي نفى فيها وجود شعب كردي، ووجود قضيّة كرديّة، ووجود كردستان في سورية، فما صدر عن بعض المعارضين السّوريين من تصريحات غير مقبولة وعنصريّة تجاه الكرد السوريين، سبقهم في قولها عبد الله أوجلان، كي يرضى عنه نظام حافظ الأسد.
تدهورت علاقة العمّال الكردستاني بالنّظام السّوري، وتعرّضت لضربة قويّة واستراتيجيّة من عام 2002 إلى غاية مطلع 2011. مع تطوّر ملحوظ وهام في العلاقة بين أنقرة ودمشق، بخاصّة بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا. لكن مياه الأسديّة عادت إلى عروق تلك العلاقة، وتشكّل حلف القافات الثلاث: قنديل، قم، قرداحة. ذلك كله، والفرع السّوري لحزب العمّال الكردستاني، كان ولمّا يزل يحاول أن يحجز لنفسه مكانًا على مقاعد المعارضة السوريّة، بينما رأس الحزب (الكردستاني)، يديره النّظامان في طهران ودمشق.
الثّابت؛ أنّ تاريخ العمّال الكردستاني من عام 1979 ولغاية 2000، ومن عام 2011 ولغاية 2023، ملطّخ بعار الأسديّة. وهذا العار، سيبقى يلاحق الحزب وفروعه، ليس في سورية وحسب، بل في العراق وتركيا وإيران، وحتّى لو كان هذا الفرع في الأرجنتين.