"ظلال القطمون" .. القدس ناسا ومكانا
لم تنشُر وزارة الثقافة الفلسطينية في إعلانها، الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، أسماء الفائزين بجوائز فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانية 2020، مسوّغات اللجان المختصّة في اختيارها الأعمال التي تمّ تكريمها بالجوائز، غير أن في الوسع أن يرجّح واحدُنا حزمةَ أسبابٍ لأن تنال رواية أستاذنا إبراهيم السعافين "ظلال القطمون" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2020) بجائزة فلسطين للآداب، أحدُها الطموح البادي لهذا العمل (350 صفحة) أن يطلّ السرد فيه على مساحةٍ زمنيةٍ منذ نقمة الفلسطينيين غداة وعد بلفور المعلن في العام 1917، في انتفاضاتهم وثوراتهم التي تتابعت، وصولا إلى احتلال القدس في نكبة 1948. وفي الوُسع أيضا أن يخمّن واحدُنا أن هذه الرواية استحقّت الجائزة المقدّرة للجهد الظاهر فيها، من حيث الإفادة من وثائق وأرشيفاتٍ ومذكّراتٍ وسير وبحوثٍ ومروياتٍ فلسطينيةٍ متنوعةٍ في إضاءات السرد على وقائع غير قليلة، متّصلةٍ بما تعتني الرواية بالحكي عنه والتفصيل فيه. وربما تيسّر المقادير الغزيرة في "ظلال القطمون" لمعلوماتٍ موثّقةٍ عن مواجهاتٍ مع الصهاينة المعتدين، وعن قادةٍ فلسطينيين في معارك معهم (عبد القادر الحسيني وإبراهيم أبو دية وغيرهما)، القول إن السعافين كتب عملا ينتسبُ إلى ما سمّيت "رواية المعرفة"، أي التي تتوظّف فيها مادةٌ معرفيةٌ، وباسترسالٍ في مواضع كثيرة، لتأخذ القارئ في عالم النص كله، بمشتملاتِه ومحيطِه العام، وتعريفِه بالذي يحسُن أن يعرفه، بل يحدُث أن تصير الرواية نفسُها أداةً للمعرفة، بتعبيرٍ جائزٍ ربما، من قبيل الذي فعله عبد الرحمن منيف في "مدن الملح"، لمّا استغرق في الاستعانة بالجغرافيا والتاريخ ومعارف أخرى. وكذا الذي فعله النرويجي، جوستاين غاردر، في "عالم صوفي" التي تعدّ روايةً عن تاريخ الفلسفة، إذ أوجزت إحاطةً بهذا التاريخ في مبنىً سرديٍّ حافظ على جنس النص ونوعه الروائي.
"ظلال القطمون" روايةٌ وليست تاريخا لفلسطين. ولأنها كذلك، فإن البعد المعرفي العريض فيها لم يُضعف الوجود الحيّ لشخوصها العديدين، والذين يتحرّكون، عيانيا ووجدانيا، حسّيا وشعوريا، في القدس وضواحيها وأحيائها، مدينةً واحدةً موحّدة، مرتبطين بها، وبعموم الوطن، بلداتٍ وقرى ومدنا. وقد صنع إبراهيم السعافين في نسجِه العلاقات المتشابكة بين أبطال روايته، وفي ارتحالاتهم، خريطةً اجتماعيةً متصلةً بالمكان الفلسطيني. وهنا، يجوز اعتبار الرواية نصّا سرديا معنيا بالفضاء الفلسطيني، ناسا وأمكنةً، في زمن المواجهة الأولى مع الغازي الصهيوني الذي أراد محو الوجود الفلسطيني في المكان الفلسطيني. وهنا يُخمَّن أن واحدا من الأسباب الوجيهة لأن تُحرز "ظلال القطمون" جائزة فلسطين أنها شادَت مبنىً سرديا احتفل بالمكان وناسِه، نهض عليهما، وتَمثّلَ الوشائج السرّية والغامضة، وكذا البيّنة والكاشفة، بين الفلسطيني، سيما في القدس ومحيطها (القطمون حيٌّ خارج القدس العتيقة)، ومكانِه، إبّان التدبير الصهيوني لسرقة هذا المكان. مثالا، ثمّة بلدة (أو ضاحية؟) عين كارم قرب القدس، يحاصرها الصهاينة، ويراها قارئ الرواية بناسِها، وبشجر التين واللوز والزيتون فيها، وغيوم بيضاء تظلّلها، وبمزاراتها والمسجد العمري والأضرحة وكنيسة يوحنا المعمدان فيها. أما القدس (وجنباتُها) نفسُها، فلا تزيّد في حسبان هذه الرواية عملا مركزيا في المدوّنة الروائية الفلسطينية، على صعيد الاشتغال عليها، ليس مدينةً وحسب، وإنما أيضا فضاءً إنسانيا وروحيا، ومجتمعا ثريّا، وجغرافيا تفاصيل أتقن السعافين تصوير إيحاءاتِها وتعبيراتِها التي يضجّ المكان بظلالها.
يطابق اسم الرواية "ظلال القطمون" اسم لوحةٍ فنيةٍ تركها أحد أبطال الرواية، منصور اللحام، في بيته في حي الطالبية في القدس، والذي هُجّر وزوجته منه مارغريت في حرب 1948. والإيحاء في هذا غير خافٍ، سيما وأن مختتم الرواية ينفتحُ على شتاتٍ فلسطينيٍّ يبدأ بعد نكبة تلك الحرب، فثمّة ما هو باقٍ في القدس لمن غادر "ديارا لا تغيب أبدا"، وهذا وصفُ لها في الفصل الأخير من هذا العمل الروائي الثقيل، وقد اختير عتبةً له، (كما لكل فصلٍ عتبتُه) قولُ مجنون ليلى "وقد يجمع الله الشتيتيْن بعدما/ يظنّان كل الظن أن لا تلاقيا" .. لا يعني التهجير الفلسطيني الذي جرى في ذلك العام أن اللقيا مع تلك اللوحة في ذلك البيت في الحي المقدسي لن يصير. ولوحة غلاف الرواية للتشكيلي سليمان منصور (امرأة تحتضن القدس) تنطق بموقع المدينة المقدّسة في وجدان الفلسطينيين .. والرواية التفتت إلى شجاعة المرأة الفلسطينية وعطائها، في محكيّاتٍ بلا عددٍ، في هذا النصّ الثقيل، كثير المغازي والظلال .. .