طواف مسقطي

13 ديسمبر 2021

(حسن مير)

+ الخط -

ابتكرت الكاتبة العُمانية، بشرى خلفان، قبل أيام، لترويج رواية جديدة لها اسمها بلوشي "دلشاد" (تكوين، الكويت، 2021)، ويقابله بالعربية لفظ الفتى الضاحك أو السعيد، على الرغم من أنه عاش، في الرواية المتخيلة، صراعات مركّبة، ونبذاً في طفولته وحرماناً عاطفياً ومعيشياً، ثم ماتت زوجته، لتترك له مريم كضوء أمل وحيد لحياة أفضل. كانت الفكرة أن تسترجع بشرى خلفان تضاريس الرواية عبر المشي. ولأن "دلشاد" تدور في حارات وأزقة قديمة في مسقط، صار الأبطال الورقيون للرواية بمثابة الأجداد للأحفاد الواقعيين، وذلك لأن الخريطة كانت واضحة طوبوغرافياً في الرواية. لذلك، كانت الشابات والشباب الذين انضموا إلى حملة الطواف يمشون على خطى دلشاد المتخيل، وأماكن حياته في الرواية. وقد أشرفت على هذا الموضوع الطريف مؤسسة بيت الزبير، حيث أعلنت الفكرة عبر منصتها، لتنطلق قافلة المشّائين عند السادسة صباحاً وبلباس عصري.
وصلت رواية "دلشاد" إلى طبعتها الرابعة في وقت وجيز، وكأنما أرادت الكاتبة أن تقول لأصدقائها: يا من مشيتم مع روايتي بأعينكم، تعالوا معا لنمشي في عرصاتها. هيا نُنعش الذاكرة... المكان الذي رسمته بشرى خلفان في روايتها، وهو مكان طفولتها الأول، حيث عاشت في مسقط، وتشرّبت من تفاصيل الطفولة. ولأن الطفولة ذلك المكان الذي يصعب أن يتخلص منه الكاتب، تغير بل تحوّل. لكن لا بد أنّ المشّائين واجدون فيه، وعبر شرح الكاتبة الممتزج بالتذكّر، والمؤثّث انطلاقاً مما تراه في مرايا بعيدة، واجدون فيه كلّ جديد ومختلف.
مسقط ومطرح عاصمتان توأمتان لعُمان، تحملان تاريخاً مشتركاً، وتتمتعان بطاقة تعدّدية، إلى جانب أنّهما تشكلان رئتين جغرافيتين، بسبب طبيعتهما البحرية، زاخرتين بذاكرةٍ ثريةٍ وتاريخ من الجوع والأمراض والحرمان وتفاصيل تؤهلهما لكتابة أعمال روائية كثيرة. كذلك فإنّهما تتميزان كذلك بالتنوع الإثنوغرافي النادر في بلدٍ يتسم بالحفاظ على طابع واحد وتقاليد متشابهة. تظل المدينتان كأنّهما خارجتان من التاريخ المغلق على نفسه للقرى العُمانية، وأصبحتا، مع الوقت، كبيرتين، بل إنّ مطرح وحدها توسّعت وتحولت إلى ولايةٍ في قلب العاصمة مسقط التي تحوّلت بدورها إلى محافظة.
بالعودة إلى رواية "دلشاد"، أهم ما بشرتنا به كاتبتها، بشرى خلفان، أنّه يمكن الرواية أن تنتشر من دون أن تفوز بجائزة، بل إنّها قد لا تحتاج إلى هذه الجائزة، حين نعرف أنّها لم تشارك بها الكاتبة حتى في جائزة الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء. ربما لأنّ بشرى أرادت أن تثبت أنه يمكن الرواية أن تنتشر بمجهود كاتبها، ومن دون أن يتبع ذلك جوائز أصبحت، للأسف، المدخل الوحيد والأقوى للتعريف بأي رواية، فبمجهود فردي متقن وجميل مليء بالحب، يمكنني أن أجعل من روايتي تفوز ليس بالجوائز، بل بقلوب قرّائها، وهذا ما أثبتته بشرى خلفان، في روايتين متواليتين: حملت الأولى كذلك عنواناً مسقطياً خالصاً، "الباغ"، وهو اسم فارسيٌّ معرّب محلياً، يقابله بالعربية البستان. حظيت هذه الرواية، كلاحقتها، بمقروئية مهمة، إذ تتابعت طبعاتها، من دون أن تكون مدعومة بأيّ جائزة سوى جائزة قلوب قرّائها.
انطلقت الرحلة من بيت الزبير في مسقط، وهو بيت تحوّل إلى متحف ومؤسسة ثقافية صارت لها مبادرات متعدّدة، منها دعوة أدونيس وعبد الفتاح كيليطو، وفعاليات تحوّلت، بسبب جائحة كورونا، إلى افتراضية، كما استضافة الناقد عبد الله الغدامي أخيراً. ولأنّ القافلة انطلقت من بيت الزبير، وجابت أزقة مسقط ومطرح التقليدية، التي بثت الرواية الحياة فيها، وأثثتها بوجوه وعوالم وأخيلة، فإن الرجوع كان كذلك إلى بيت الزبير. البيت الذي تحرّك فعالياته في الخفاء الباحثة منى السليمية، من دون أن تُنسى مبادرات الشاعر محمد الشّحي وأفكاره الولادة، التي من أهمها إيجاد توأمة بين بيت الزبير ومنشورات دار توبقال المغربية.
شقّ الراجلون طريقهم بعد نهاية الطواف، عائداً كلٌّ منهم إلى سيارته، وقد ملأت رحلة المشي رؤوسهم بمعرفةٍ جديدة للمكان، حيث رأوا ما عاشوه في الرواية وقد تغير من حال إلى حال، مع عدم خلوّ الأمر من بعض شواهد ناطقة بالماضي، تخيّلتها رواية "دلشاد"، وأعادت إنعاشها في الذاكرة عبر سردٍ شائق، ينمّ عن خبرة في صياغة الصورة السردية وتحشيد الأحداث والمضي بها بسلاسة وسلام، حتى النهاية.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي