طه حسين "من بعيد"
صحيحٌ أن يوسف زيدان (هل من حاجةٍ إلى تعريفه؟) كان يُمازح فراس السوّاح (....؟) في الندوة إيّاها في القاهرة قبل أيام، عندما سألَه إن كان (فراس) أهمّ من طه حسين. وصحيحٌ أن الأخير (فراس وليس طه حسين طبعاً) كان يُمازح زيدان أيضاً لمّا أجاب بأن اثنيْهما أهمّ منه. ولكن لنا أن نقول إن مزحتيْهما بائختان، ولأنهما (المزحتان) كذلك، اضطرّ الكاتبان (القديران عن حقّ) إلى التعقيب بأن ما قالاه محضُ دعابة، وإنّ ما من عاقلٍ يقول إنّه أهمّ من طه حسين، على ما أوضح السوّاح، وإنّ طه حسين أستاذ الأجيال والعميد عن حقّ، على ما قال زيدان. ولكن المزحة شديدةَ السماجة استخدامُ صاحب "الوعد الحقّ" في تسويق المشروع الذي تنهض به مؤسّسة "تكوين" التي جرى الإعلان عنها، بالتساوق مع تنظيم الندوة التي تحتفي بطه حسين بوصفه من روّاد التنوير في الثقافة العربية المعاصرة. ومن أغراض هذه المؤسّسة أن تبشّر بتنويرٍ من نوعٍ خاص، يظنّ أصحابُه أنه يلتقي مع الذي كان يقولُه كاتب "شجرة البؤس"، وهذا ليس دقيقاً تماماً، كما أن الذي أذاعه أهل "تكوين" عنها وعن أنفسهم لا يسمّى تنويراً في الأساس، وإنْ بدا كذلك، ولو تسلّح بنُتفٍ منه وعنْه، لسببٍ غايةٍ في البداهة، أن التنوير ليس له أن يكون أعرج، أي لا يتعلّق فقط بتجديدٍ في الخطاب الديني، ولا ينصرفُ إلى المحافظين والمتشدّدين من المشايخ وأصحاب الفتيا وحدهم، وإنما يأخُذ، أيضاً، موقفاً من المستبدّين، ولا يصمت عن جرائر هؤلاء وجرائمهم. والأساتذة الذين يتوسّلون انتفاعاً من طه حسين في عملهم هذا، في "تكوين" وغيرها، يتشاطرون بلبس القناع إياه، لعله يستًر الغرض السياسي الذي يريدون، مع الاتفاق مع كثيرٍ مما يقولونه، من بديهيّ القول أحياناً، بشأن ناس الاستبداد الديني وقوى التطرّف والإرهاب.
ثمّة مقاديرُ ظاهرةٌ من الجدّ والهزل في قصّة "تكوين" هذه، تبدّى بعضٌ منها في فائض الخفّة التي يتعاطى بها صحافيون وكتّابٌ متعجّلون في مواقع عُليا في المؤسّسة هذه، في غير شأنٍ سياسيٍّ وإعلاميٍّ وثقافي. ولا أقرأ في الفنجان عندما أتوقّع أن تتواتَر تالياً حوادثُ ووقائعُ وأنباءٌ ينكشف في غضونها مزيدٌ من العَوار في الذي يطرحونه، إبراهيم عيسى ويوسف زيدان وإسلام البحيري وفراس السواح (و....)، عن التنوير، الأعرج كما هو منكشفٌ، المنتظِم في سياقٍ سياسيٍّ لا يعمى عنه بصرٌ ولا تغفل عنه بصيرة، واضحُ الوجهة في أحضان أنظمة الاستبداد والثورات المضادّة.
ليسوا أول الأوائل هؤلاء في الاستقواء بطه حسين، وفي الإطناب عن حداثته وتجديده وعصريّته وحرصه على التعليم الذي يجب أن يتوفّر للناس كما الماء والهواء، فما زال الرجل يُستعاد للبحث والدرْس والتفكّر، ومن الشواهد على هذا الاحتفاليّات به في مرور 50 عاماً على وفاته في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والكُتب عنه التي يتوالى إصدارُها (وبعضُها رفيع). إنما أولئك، أو اثنان منهم، للدقّة، هما أول الأوائل في التباسُط مع مستمعيهم، عندما يُؤثران الدعابة في شأن أهميّته وأهميّتهما. و"من بعيد" (عنوان أحد كتبه)، لو أفسح واحدُنا حيّزاً عريضاً لمخيّلته لربما رجَح أن طه حسين لم يكن سيزعل من كلامٍ كهذا، وربما يقابله بالضحك، وهو الذي كان يحبّ النكتة، واتّصف بقسط ليس هيّنا من روح السخرية والتهكّم. وفي "الأيام" سيرته (البديعة الخالدة لا شك) مقاطع غير قليلة تؤشّر إلى هذا في صباه وشبابه الأول. وطريفةٌ "قفشاتُه" عن عبّاس العقّاد، وكانا في خصومة راقية (دافع العقّاد عنه في البرلمان ورفض إخراجه من الجامعة في أثناء أزمة كتاب "في الأدب الجاهلي"). وتلك "اللسعَة" في اجتماع نخبةٍ من كتّاب مصر (محمود أمين العالم وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد القادر القط وغيرهم) معه، بشأن "عبقريات" العقّاد، لا تُخفي المكر والتهكّم معا (يتوفّر الحوار المتلفز في "يوتيوب"). ويروي أنيس منصور أنه قلّد طه حسين مرّة، بحضوره، واستحسن هذا منه، بل وطلب إعادته، على الرغم من حرج منصور نفسِه.
أعطى العميد في كتابه "من بعيد" عنوان "بين الجدّ والهزل" للفصل الخامس الذي بدَت مقالاتُه الثلاث أميلَ إلى الجدّ. وأظنّنا في حاجةٍ إلى الجدّ، وليس إلى غيره، في التعامل مع حروب التنوير التي يرفع بيارقَها ناسٌ يفهمونه على غير مقتضاه، ويتمازَحون في أهميّة طه حسين في دعابةٍ كاشفة، وإنْ مضحكة.