طفحٌ من سيرة خراب
ليس في إنشاء جمعية خاصة بترويج تعدّد الزوجات في مدينة إعزاز السورية مفاجأة ضخمة، فالمدينة التي تتمتع حاليا بحكم ذاتي تقع تحت سيطرة ما يسمى "الجيش الوطني" الذي يتبع، تمويلا وتجهيزا وأوامر، لتركيا، وفيها مقرّ الحكومة السورية المؤقتة. وجميعنا يعرف التوجه العقائدي للجيش الوطني والحكومة المؤقتة، إضافة إلى أن سكان المدينة، المتدينين أصلا، يعتبرون تعدّد الزوجات أمرا شرعيا، ليس فقط لا حرج فيه، بل هو تقليدٌ للسلف الصالح يجب اتباعه من دون نقاش. ويقول "ناشطون" في قلب المدينة إن الوضع الاجتماعي يجعل من مسألة الجمعية جزءا من السياق التي تسير عليه الحياة هناك، إذ يقال إن المدارس تم استبدالها بالجوامع، يكفي أن يحفظ الولد القرآن الكريم، فالتعليم أشبه بالكفر. أما مصير البنات منذ البلوغ فهو التهيؤ للزواج. يقول أحد نشطاء المدينة : "البنت لما تبلغ بيدلّلوا عليها كرمال يزوجوها، يعني يلبسوها لبس ما بيليق بعمرها وطفولتها، مكياج وقصص ما بيقبلها عقل طفلة. وبتصير تروح حفلات كرمال يجيها عريس، نساء بعمر 15، بخجل قول نساء، لأنهن طفلات عملوهن نساء، مطلّقات وعندهن أطفال".
هكذا ستكون جمعية لتعدّد الزوجات ضمن مناخ عام كالذي يسود في إعزاز أمرا عاديا، فمجتمع المدينة تهيمن فيه ذكوريةٌ وتسلط عسكري ديني بلا أي أفق أو مستقبل أو مصير واضح للمدينة، وهو ما يجعل من أطفالها ونسائها عرضةً للانتهاكات الإنسانية الأكثر ضراوة. وما يفاجئ في ذلك كله أن إعزاز تمتلئ بالمنظمات والجمعيات المدنية التي يُفترض أن مهمتها التنمية البشرية والاجتماعية، وتمكين المرأة وتعزيز الوعي المجتمعي، وتأهيل الكوادر اللازمة لإدارة تجربة الحكم الذاتي والإدارة المحلية المستقلة، وهي في أغلبها جمعياتٌ ممولةٌ من الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي عموما، والذي يُفترض أن تمويله المنظمات بهدف إنشاء مجتمع مدني، وتحسين ظروف عيش سكان المدينة، وإعادة التأهيل النفسي والمجتمعي للمتضرّرين من الحرب. ومع ذلك، كأن فاعلية تلك الجمعيات معطّلة، أو كأنها مجرّد هياكل وظيفية منشأة لغاية واحدة، تبييض صفحة المجتمع الدولي الذي سمح للوضع السوري أن ينحدر إلى هذا المستوى إنسانيا وأخلاقيا.
وربما ما يفاجئ أيضا دور الحكومة السورية المؤقتة التي اتخذت من إعزاز مقرّا لها. وعلى الرغم من أنه بات من النوافل الكلام عن ارتهان المعارضة السورية لأجنداتٍ خارجية، سيما "الائتلاف" وكل ما انبثق عنه، إلا أن ثمّة ما يثير الحيرة والاستغراب، فالحكومة التركية التي تدعم الجكومة المؤقتة وتسيطر على مدينة إعزاز تعتمد دستورا علمانيا في تسيير شؤون الدولة والمجتمع التركيين، حتى لو كان الحزب الحاكم اليوم ذا إيديولوجية دينية، إلا أنه لا يستطيع فرضها على المجتمع التركي، ولا يمكنه المسّ بالحرّيات الفردية للشعب المتعايش بشكل جميل جدا مع اختلافاته. لماذا إذا يتم السماح للسلطة الدينية المسلحة والمتشدّدة بالتحكّم بحياة المدنيين في إعزاز وتسيير شؤون المجتمع، كما لو أن هذه المدينة هي عاصمة تنظيم القاعدة أو "داعش"؟
ما هو النموذج الذي تريد الحكومة المؤقتة السورية، ومن خلفها تركيا، تقديمه عن مناطق الحكم الذاتي والإدارات المحلية المستقلة؟ ومن يخدم هذا النموذج؟ ألا يرى أي عاقلٍ في المعارضة الرسمية أن ما يجري في إعزاز وما يتم ترويجه فيها لا يصبّ سوى في عملية تبييض صفحة النظام السوري، وإظهاره مجدّدا بوصفه استبداديا منفتحا وحاميا للحرّيات الفردية مقابل سلطة استبدادية متشدّدة تعيد مواطنيها إلى عهود الانحطاط؟ اليس هذا ما سعى إليه نظام الأسد طوال سنوات عشر ماضية؟
أما جمعية تعدّد الزوجات فليست سوى طفح عن سلسلةٍ طويلةٍ من الخراب المجتمعي السوري. ولا يعني إشهارها سوى التباهي بهذا الخراب، فتعدّد الزوجات مسموحٌ أصلا في قانون الأحوال الشخصية السوري المستمد من الشريعة، وكان يحدُث كثيرا في سورية قبل الثورة، وهو يحدُث كثيرا، سيما في المناطق المنكوبة والمخيمات، بذريعة حماية الأرامل والمطلقات من الفتنة والعوز، لا بقصد تلبية الرغبات الجنسية للذكر المتحكّم (لا سمح الله). أما عن حماية الأرامل والمطلقات بتمكينهن من العمل وتأمين مصدر رزق يكفل لهن حياة كريمة، والاهتمام بمستقبل أطفالهن، فهو سيجعلهن قادراتٍ على التحكّم بمصيرهن، و"شرف القبيلة" لا يسمح بهذا الانحراف.