طز بأمريكا

14 اغسطس 2016
+ الخط -

طلب مني الصديق الفنان الساخر، ماهر حميد، مشاركته الرأي والنظر في حادثة لها علاقةٌ بعبارة (طز بأمريكا) المنسوبة، تاريخياً، للعقيد معمر القذافي، قائد الجماهيرية العربية الاشتراكية الليبية بين عامي 1969 و2011.

المشكلة الأساسية عند ماهر حميد اعتقادُه أن القذافي قال طز بأمريكا ضمن سياق خطاب رئاسي مكتوب، بمعنى أن العبارة جزء من استراتيجية سياسية مدروسة، وهذا ما لا أعتقده أنا، وإنما الأرجحُ عندي أن سيادة العقيد كان يتحدّث، في خطابه يومذاك، عن أميركا، وجبروتها، وعدوانها على الشعوب المستضعَفة، وفجأة ارتفع عنده منسوب الشعور بالغيظ والتحدّي والمواجهة، فانفلت لسانُه بعبارة "طز بأمريكا".

ولا شك أن الفرصة كانت أمامه مواتيةً للتراجع، وإجراء بعض اللف والدوران، ليثبت للأميركان على طريقة إخواننا المصريين أنه (مش واخد بالي... ومش قَصْدي)، ولكن الإخوة في قوى الأمن الداخلي واللجان الشعبية تلقفوا العبارة، مثلما يتلقف الجائعُ رغيفاً تنورياً ساخناً، وتعاملوا معها على أنها نوع من الإلهام التاريخي الذي لا ينزل عادةً إلا على القادة العظام، فصفقوا للقائد تصفيقاً أصبح (في أذن الجوزاء منه زمازمُ)، على حد تعبير المتنبي، وشرعوا يردّدون طز بأمريكا طز بأمريكا، الأمر الذي اضطر الأخَ القائد أن يتقمص الحالة، أو يتلبسها. وأخذه الحال، وهو يشرح لهؤلاء الإخوة فكرته القائلة بأن مختلف زعماء العالم لا يرفعون يداً عن رجل، ولا يجرؤ الواحد منهم على إخراج شيء من جسمه، من دون الحصول على موافقة من أمريكا، في حين أن أمريكا وَهْمٌ في وهم،... وطز بأمريكا.

وانتظر سيادة العقيد، وهذا ما لم يتطرّق إليه ماهر حميد، بضعة أيام، وهو يقلب إبرَ الإذاعات، ومحطات التلافيز، باحثاً عن رد فعل أميركي صغير، أو كبير، أو متوسط على عبارته، فلم يصل إليه، وهذا ما زاد في حيرته، وارتباكه. ومثلما حصل مع بطل قصة تشيخوف "موت موظف"، قرّر سيادتُه أن يرفع معدل جَسّ النبض للأميركان، فأرسل إلى بلاد الشام طائرةً خاصة، تحمل وفداً مزوداً بأوامر صارمة بإحضار مجموعة من كبار الخطاطين أمثال بدوي ومولوي والباري، وأن يمرّوا، بطريقهم، على مقر اتحاد الكتاب العرب في المزة، ويُقرئوا رئيسَهُ الدائمَ، علي عقلة عرسان، السلام، ويطلبوا منه إرسال بضعة شعراء ممن اشتهروا بسرعة النظم، قد يلزمون للقائد فيما ينوي فعله، ويعودوا إليه قبل أن يرتدّ إليه طرفه.     

ههنا ابتدأت المرحلة الثانية من العملية التاريخية، وتتلخص بكتابة عبارة (طز بأمريكا)، بالبنط العريض، على جدران الأبنية الحكومية، وفي لوحات الإعلانات المدرسية الليبية، على أن تركّز الصحافة المحلية، والصحافة العربية والعالمية التي يمولها هذا القائد التاريخي، على العبارة، وتصدّر الفكرة القائلة إن طز بأمريكا قد دخلت في صميم الاستراتيجية السياسية للجماهيرية العربية الاشتراكية الليبية.

يعرف سيادة العقيد، مثلما نعرف نحن وأكثر، أن الإنكليز ذوو دم بارد، وردود أفعالهم السياسية تتأخر كثيراً، أما الأميركان فهم من أصحاب الدماء الحارة. ولذلك، فقد أمر ببناء واحة وارفة الظلال في الصحراء الليبية، وبإحضار ناقتين حلوبتين، ودِلال القهوة المرّة، والمطابخ العربية، وبعض الشعراء المحسوبين على الأخ علي عقلة عرسان، وجلس ينتظر ردود الأفعال الأميركية. لكنه، يا حبة عيني، ملّ من الانتظار، وعاد إلى حياته الطبيعية، وكاد أن ينسى رد فعل الأميركان، حتى كانت سنة 2011، وفهمكم كافٍ.    

قلت لماهر حميد: ولكن، قل لي، يا أبو أمير، كيف خطرت هذه الذكريات ببالك الآن؟

قال: أرى السيناريو يتكرّر الآن مع وريث حافظ الأسد الذي ظن أن تسليم السلاح الكيماوي لأوباما قد أنجاه من السقوط. وأنا، في الحقيقة، أرى رأس الأسد عند الأميركان قد أينع، وسوف يقطفونه، على الرغم من أنه لم يقل: طز بأمريكا، وهو، على كل حال، أجبن من أن يقولها. 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...