ضاقت وكنت أظنّها ستفرج
قاد تشرشل بريطانيا في الحرب العالمية الثانية إلى نصر كبير، كان له فيه دور أساسي، ولكنه على الرغم من ذلك سقط في الانتخابات مباشرة بعد تحقيق الانتصار، حيث كانت المباحثات حول مستقبل ألمانيا والعالم لا تزال جارية، فأكمل رئيس الوزراء الجديد كليمنت المفاوضات بدلا منه. لم يكن ذلك الانتصار الكبير مبرّرا لإعادة انتخاب تشرشل، بل على العكس كان التفكير السائد يقول إنه بعد الحرب يجب انتخاب شخص يقود عملية إعمار ما بعدها. كما أن الحرب لم تكن سببا في إعلان قانون طوارئ يوقف الانتخابات أو يؤجّلها إلى حين استقرار البلد، بل على العكس من ذلك كانت مبرّرا لإجراء الانتخابات من أجل الانتقال إلى مرحلة أخرى تتطلب إدارة أخرى. الأمثلة التي تتشابه فيها الحالات مع حالة تشرشل كثيرة، حيث ينسحب مسؤول ما من السلطة نتيجة فضيحة قد تكون، في بعض الأحيان، استخدام منزل حكومي من ذلك المسؤول، وتستمر الحياة السياسية والعامة في البلد، من دون أن يتأثر أحدٌ بما حدث.
في بلادنا، يحدث عكس ذلك تماما، حيث يقود الزعيم هزيمة كبرى، فتصبح بقدرة قادر نصرا مبينا، فبقاؤه على رأس السلطة حتى لو لم يبق من من الأرض سوى متر مربع واحد يقف عليه الزعيم يعتبر انتصارا جديرا بأن تحتفل الجماهير به، لا سببا بهبوط أسهم الزعيم، وبالتالي انسحابه من الحياة السياسية، وتسليم الزمام لشخص مؤهل أكثر للقيام بتعويض ما تمّت خسارته، في بعض الحالات مثل حالة جمال عبد الناصر بعد حرب حزيران 1967. يقر الزعيم بالهزيمة، ويعلن استقالته فتحدُث ظاهرة غريبة، حيث تخرج الجماهير إلى الشوارع لتعلن عن تعلقها بأطراف عباءة الزعيم، وتطالبه بعدم الاستقالة. وبغض النظر عن أن ما جرى كان مدبّرا أم تلقائيا، فإن الأمر يشير إلى توفر حشود من الجماهير على أهبة الاستعداد لممارسة هذا الدور، أي دور النداب اللطام على فراق الزعيم، في سورية. وتحت ذريعة الحرب مع إسرائيل، أعلن قانون "الطوارئ"، القانون الذي سيتم استخدامه بشكل طارئ، ريثما تحسم الأمور التي تسببت في إعلانه، أي أنه مؤقت، ولكن هذا القانون المفترض أن يكون استخدامه لأشهر على أكثر تقدير تحوّل إلى قانون أبدي، لا يمكن، بفعل قوته، المساس به، حيث إن من يحاول ذلك يقع تحت تأثيره، وقد تكون محاولته تلك آخر محاولاته لفتح فمه، حيث ربما يتم زجه حتى إشعار آخر في غياهب السجون. حيث لا حاجة في ظل قانون الطوارئ لمحاكمة ولا مكان لمحامين وقوانين. وفي أحسن الأحوال، تتوفر محكمة ميدانية تعقد لتدين، ولو أن هذه القوانين سخرت لتحقيق الهدف الذي أعلنت بسببه لأغمضنا العين وتقبلنا الأمر، ولطغى العام على الخاص، والوطني على الفردي، غير أن هذه القوانين تصبح حتما غطاءً قويا للفساد ونهب خيرات البلاد، وهو أمر يقوم به جميع الطغاة، ولا يمكن استثناء واحد منهم، فسرعان ما تتحوّل الأنظمة التي تستخدم هذه القوانين إلى عصاباتٍ قوامها أحزاب السلطة، وأحيانا عائلات السلطة. ولا داعي للحديث في هذا الموضوع، فجميعنا يعرف ما يشيب له شعر الرأس من الأمثلة، لأن هذه العائلات أو العصابات الحزبية في مرحلة متقدّمة من تطور الحالة تتباهى بما تفعله ولا تخفيه، والويل والثبور لمن يتعرّض لها .
قسم من هذه الأنظمة يأتي عبر الانقلابات، أو جاء عبر الانقلابات التي أجرت بعد ذلك انتخابات صورية ودستورا منسوجا على مقاسها. وبعض هذه الأنظمة جاءت بفعل عملية انتخابية حقيقية، ولكن السلطة سرعان ما أصبحت بين فكيها كعظمة بين فكي كلب، تراها تصنع كل الظروف التي تمنع إعادة الانتخابات، أو تخترع انتخابات مفبركة، تضمن بقاءها، سواء كأفراد أو كأحزاب ومنظمات. وما يجعل الأمر مميزا أن هذه الأشياء كلها تحدُث في الشرق، ففي الغرب لا تشكل السلطة غنيمة فردية أو حزبية، لأن هناك مؤسسة دولة تشمل جميع نشاطات المجتمع بدون استثناء، وتضمن تطوّره وتداول السلطة فيه بشكل قانوني، بينما في الشرق "كلما قلنا إنها فرجت ضاقت حلقاتها واستحكمت" من جديد.