صيف السجون المصرية وجحيم انعدام الإنسانية
تتجاوز قصص مسجوني الرأي لدى النظام المصري ومعاناتهم، خصوصا مع فصل الصيف، ما يمكن للعقل تقبله، فضلًا عن استيعاب أن خلقًا يفعلون ببعضهم بعضًا مثل هذه المآسي التي يندى لها جبين البشرية، إن كان قد بقي للبشرية اليوم جبينٌ يستحي من مآسي الديكتاتوريات المعاصرة، وإلا كيف يمكن أن يعتقل النظام وليد صالح سعودي، أحد أعضاء حزب البناء والتنمية، الذراع السياسية للجماعة الإسلامية، في 4 أغسطس/ آب الماضي، ثم يقرّ بأنه لا يريد من الرجل شيئًا، أي أنه غير مدانٍ على ذمة أية قضية، أيًا ما كانت. ولكن لكي يفرج عنه ينبغي لضابط من جهاز الأمن الوطني أن يلتقي بالمعتقل سعودي لتأكيد القرار، وربما للتفتيش في أنحاء عقله وخلجات وجدانه وأبعاد روحه وحنايا ضميره، فلعله معارضٌ مستتر، أو ربما يحلم أحلام يقظة بالنهار، أو يداوم على أن يرى منامات ورؤى وأحلاماً في الليل بزوال قساة القلوب والأكباد والأفهام؟ ولأن في مصر لا قيمة للإنسان الشريف المخلص، فقد لفظ الشهيد وليد سعودي أنفاسه في قسم أول المحلة الكبرى بمحافظة الغربية بعد إخلاء النيابة له، وسبب الوفاة المُباشر من أغرب ما يكون في بلاد لا ترى للإنسان وجودًا أو كرامة، إنه باختصار "حر الصيف"، فإن كان أُخلي سبيله بعد أسبوع واحد في 11 من أغسطس/ آب من اعتقاله، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، فقد استشهدَ في سابقة نادرة "مختنقاً نتيجة التكدّس وسوء التهوية وارتفاع درجات الحرارة"، بحسب منظمة "نحن نسجل" الحقوقية المعنية.
عدد مسجوني الرأي نحو 65 ألفاً، منهم حوالي 37 ألف مسجون احتياطي لم توجه إليهم تهم بعد، ولم تصدر المحاكم أحكاما عليهم
لماذا اعتُقل وليد صالح سعودي من الأساس أسبوعا قضى فيه نحبه؟ لا أحد يعرف، أو حتى يزعم إنه سيعرف. ويكفي أن نعلم أنه الشهيد الثالث خلال 24 ساعة وقعت بين يومي الاثنين والثلاثاء 10، 11 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) فحسب، وللأسف الشديد لم يكن وليد الأخير في هذا الشهر، وإن سبقه 33 قضوا نحبهم خلال العام الحالي في سجون النظام المصري ومعتقلاته، لأنهم لم يقرّوا بهذا النظام أو أُخذوا بالشبهة أو عدم وجود دليل، بالإضافة إلى 1058 لقوا المصير نفسه في المعتقلات ومراكز الاحتجاز منذ 3 من يوليو/ تموز 2013 حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفقًا لمنظمة "كومينتي فور جاستس".
نحن مجددًا أمام قتل غير مبرّر، وبسبب مباشر بالغ، انعدام الإنسانية فضلًا عن أن معتقلي الرأي على امتداد سجون مصر، وهي 78 سجنًا (تم بناء 35 منها بعد ثورة 25 يناير 2011)، فيما عدد مسجوني الرأي نحو 65 ألفاً، منهم حوالي 37 ألف مسجون احتياطي لم توجه إليهم تهم بعد، ولم تصدر المحاكم أحكاما عليهم، بالإضافة إلى نحو 382 مقر احتجاز في أقسام الشرطة ومراكزها في المحافظات، مع وجود سجون المعسكرات السرية. وعلى الرغم من ذلك كله، بلغ التكدّس من 160% في السجون و300% في مراكز الشرطة، ومنها أول المحلّة الكبرى الذي قضى فيه وليد، وذلك وفق تقرير رسمي عن المجلس الأعلى لحقوق الإنسان الحكومي في تقرير عام 2016.
تتجدّد الآلام والمتاعب على مدار الساعة على امتداد مصر، وعدد الذين يلقون الله نتيجة الإهمال الطبي يتزايد
يصل الحال في الصيف ببعض المحتجزين المقاومين سلميًا للنظام ألَّا يجد أحدهم مساحةً ليجلس عليها، فضلًا عن أن يتحرّك أو ينام، فيبقى أكثر من مائة في غرفةٍ لا تسع إلا ما دون العشرة منهم فحسب. وبالتالي يكون لكل منهم 30 سنتيمترًا فحسب ليجلس فيها إن استطاع، وربما اقتضى الأمر أن يُلازم جوار برميل نفايات، بالإضافة إلى عشرات الحشرات حوله والروائح المترتبة، أو أن تكون لديه خمس دقائق ليقضي حاجته ويستحم في دورة المياه الوحيدة المخصصة لهم. وبالتالي، يتنفس كثيرون من الأسرى لدى النظام المصري بصعوبة، ويعملون ساعة التوقيف بالثانية (أستوب ووتش) في النهارات البالغ اشتداد الحرارة فيها، في محاولةٍ لإبقاء كل منهم على حقه في الحياة، وإنْ على حساب الآخرين، فمنهم من لا تغنيه الدقائق القليلة، فيقرّر المجموع عليه غرامة داخلية قد تمنعه من دخول دورة المياه فترة ولو قليلة. أما الذين يخرجون في الموعد فإن عليهم الانتظار في نهاية الطابور مجدّدًا فلربما أسعدهم الحظ، ودخلوا دورة المياه مرة أخرى خلال اليوم نفسه والليلة نفسها.
تتجدّد الآلام والمتاعب على مدار الساعة على امتداد مصر، وعدد الذين يلقون الله نتيجة الإهمال الطبي يتزايد، خصوصا أن فيهم المرضى وكبار السن، وأيضًا الفتيات اللواتي يتعرّضن للاغتصاب، فيما مئات الآلاف من الأهالي حائرون خلف أبنائهم وآبائهم وإخوانهم، وأحيانًا بناتهم وأمهاتهم، يتمنّى بعضهم لو اختلى بأحد ذويه، ولو ثوانٍ، فضلًا عن استطاعته احتضانه أو احتضانها، فيمنع النظام مجرّد الزيارة أحيانًا كثيرة، ويتعمّد أن تكون الزيارة من خلف سلك كبير من وراء آخر، إمعانًا في إذلال المعتقلين والسجناء وأهاليهم. ويضطر الجميع لانتظار سماع صوت حبيبٍ مغيّبٍ في أثناء توقف سيارة الترحيلات أو سيرها ببطء. وفي ذلك تروى قصص عجيبة، تجعل الدموع تطفر من عيني كل إنسان.
إذا كانت قد زالت لدى كثيرين محنة السجن والاعتقال وشهوره الطويلة، فإن الذكرى لن تزول من قلوبهم وعقولهم وأرواحهم ووجدانهم
أما الذين فارقوا الاعتقال، وخرجوا إلى الحياة العامة، فإن قليلين منهم يمتلكون شجاعة التعبير والمقدرة عليه، راويًا قصصًا لا تقل مأساوية عن موتٍ مؤقت للروح، تعمّده النظام وأذنابه معه، حتى أن أحدهم، وهو كاتبٌ مقتدر ورئيس تحرير متمرّس، روى أنه أجبر على ارتداء ثياب منقبة، مع أنه ليبرالي، فأيقن أنه يتم إعداده للقتل، تحت زعم محاولته الفرار، فأضرب عن الطعام والشراب، على الرغم من أمراضه حتى أشرف على الهلاك، لولا أن رحمه أحد كبار الطغاة، فأقسم أنهم لا يريدون قتله بل تسليمه لأهله. وإذا كانت قد زالت لدى كثيرين محنة السجن والاعتقال وشهوره الطويلة، فإن الذكرى لن تزول من قلوبهم وعقولهم وأرواحهم ووجدانهم. وقد اشتكى كثيرون من الهواجس والكوابيس وصراخهم في الليل، وعدم مقدرتهم على مواجهة الناس، حتى بعد ارتداء كامل الملابس للخروج إليهم. أي أن نظام الجنرال في مصر يتعمّد إزهاق الأرواح، فإن لم يستطع يعمد، في سعي سريع، إلى قتل روح الحياة داخل أنفس المحتجزين لديه، حتى من دون قضية أو اتهام. وفي الصيف، يستغل حتى ارتفاع درجة الحرارة أملًا في التخلّص من أكبر قدر ممكن منهم.