صيفٌ لا يشبه غيره

21 يوليو 2022
+ الخط -

وأنا أفكر في العنوان الذي كتبت أعلى الورقة البيضاء أمامي، كنت متأكّداً أن صيف هذه السنة لا يمكن إلا أن يكون مماثلاً لصيف السنة التي قبلها، ولكثير من فصول الصيف التي تعاقبت منذ سنوات. أقول هذا بحكم أن ما نتطلّع اليوم إلى حصوله في عالمنا لا نجد ما يكفي من المعطيات المؤشّرة على إمكانية تحققه. ولهذا نقول إن صيف هذه السنة، وإنْ يشبه، في كثير من أوجُهِه، صيف سنواتٍ مَضَت، فإنه، مع ذلك، يُعَدّ صيفاً لا يشبه غيره. وأتصوَر أن الحسم في الشَّبَهِ من عَدَمِه، يرتبط، أولاً وقبل كل شيء، بزاوية النظر التي ننظر منها إليه، وذلك خارج المواصفات والطقوس التي تُعَدّ جزءاً من سماته العامة والمتكرّرة.

أتأمل أجواء صيف هذه السنة وقد استقرّت، أفكّر في البحر والمسابح والعطل والأسفار والأفراح.. ومختلف الظواهر المتصلة بما ذكرت، والتي تتكرّر متجدّدة كل صيف، لتمنح كل ما نراه مواصفاتٍ خاصة، حيث تختفي كل الألوان الرمادية، وتتضح ملامح أمور كثيرة كانت تبدو غامضة أو مختلطة أو ملتبسة. ويسمح الحضور القوي لضوء الشمس وأشعتها بتسليط الضوء على أمور كثيرة في الطبيعة والمجتمع، فتصبح أكثر وضوحاً. أستحضر هذه المعطيات، لأفكر في بعض أحداث التاريخ والسياسة في عالم متغير، لعلّي أقترب قليلاً من تحولات الوضع العربي ومآلات القضية الفلسطينية اليوم.

يحق لنا أن نتساءل، ونحن نشاهد ما يجري اليوم في العالم، في سياق التشكّل الجديد للعلاقات الدولية، كما تبدو بعض علاماته في الحرب الروسية الأوكرانية المتواصلة منذ أشهر، وفي مواقف الغرب والولايات المتحدة منها، بل ومواقف العالم أجمع وشبكات المنظمات الدولية من أشكال تطورها.. وأبحث عن العرب، وهم يواجهون مصيرهم ومصير ما يجري في العالم أمامهم. ويبدو لي أنهم يجدون اليوم صعوبة كبيرة في التواصل مع الأحداث والمعطيات، التي تقع في العالم بالقرب منهم، بحكم التناقضات العديدة التي فجرتها الخرائب الحاصلة في مجتمعاتهم. أتساءل، ماذا فعل العرب في سياق الحرب في أوكرانيا في موضوع إنتاج النفط؟ وماذا فعلوا لوقف النزيف والخراب اللذين لحقا ببلدانهم؟ إنهم يتابعون ما يجري بين أوروبا وأميركا وروسيا والصين، متناسين أن القوَى الروسية والأوروبية والأميركية في قلب ديارهم، فهي ترتّب تحوّلات المشرق العربي أمام أعينهم، ولا نعثر في أَجَندَاتِهِم السياسية على الحدود الدنيا الضرورية للتنسيق والتشاور فيما بينهم.. ولا يبدو أن مصير سورية وليبيا يندرج اليوم ضمن أفق تفكيرهم السياسي والاستراتيجي.

تحمل وسائل التواصل الاجتماعي صور جديدة لفاعلين سياسيين، اختاروا الابتعاد عن المؤسسات السياسية القائمة، وبناء مؤسّسات افتراضية بمعايير أخرى

يحق لنا أن نتساءل، ونحن نواجه أعباء حرارة صيف هذه السنة، عن الأهوال التي تنوء بحملها أغلب مجتمعاتنا، وهي في مجموعها، وبدون استثناء، تعيش حالاتٍ من التراجع عن المبادئ الكبرى التي ناضلت أجيالٌ عربية من أجل بلوغها، نقصد بذلك مبادئ الاستقلال والحرية والدولة الديمقراطية.. وما نُعاينه اليوم من تحوَّل قادة عرب إلى مجرد وكلاء تابعين، مُطَبّعين ومنفذين استراتيجيات قوى إقليمية أو دولية، يدعو إلى قلقٍ كثير.

يستقبل الفلسطينيون صيف هذه السنة بلا أفقٍ سياسي مرحلي واضح ومُعلن. تتواصل انقساماتهم في قلب ما تبقَّى من الأرض، كما تتواصل أوهام الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك على الرغم من أن مشروع اتفاق أوسلو أصبح اليوم مجرّد حكاية بلا أفق. اختفت منه المفردات التي كانت تمنحه المعنى، ولم يعد أحد يتحدّث اليوم عنها، فمن يطرح اليوم سؤال دولة واحدة أم دولتين؟ ومن يستطيع رسم أفقٍ لعودة اللاجئين؟ سُرقت الأرض ويَتِمّ اليوم محو الشعارات التي حملها وتغنَّت بها أجيال من العرب والفلسطينيين.. يحصل ما ذكرنا تحت أنظار الجميع، كما يراه الكبار والصغار. يراه الأشقاء والأعداء، وتُدَبِّر دولة الكيان الصهيوني إجراءات الأمر الواقع، المتمثلة في "صفقة القرن" و"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، بدعم الحلفاء الساهرين على منحها البقاء والرسوخ.

تلتقي خيارات المطبِّعين القدامى والجُدد في مَنْح الصهيونية جواز اختراق فعلي للوطن العربي، كما تلتقي في مسألة تخلِّيها عن القضية الفلسطينية، رغم كل ما يُقال عن المواثيق واتفاقات الحكم الذاتي في الضفة والقطاع. فقد دخل بعض العرب اليوم زمن التباهي بالتطبيع، تحوّل الصهاينة إلى خبراء في السياحة والتطبيب والمخابرات، وتقنيات حراسة الحدود والفضاءات.. أحكموا الخناق على جنين الحكم الذاتي في غزة، ويطمع المطبّعون الجدد أن تتكفل إسرائيل بالتنسيق مع حليفها الأكبر، الولايات المتحدة، لتدبير مسألة حمايتهم من إيران.

ما يجري اليوم في تونس والمغرب، على سبيل المثال، يكشف صعوبات الركون إلى نمط الحكم الديمقراطي، في الصيغ التي استقرّ عليها

يحق لنا أن نتساءل، ونحن نعيش أجواء الصيف عن مصير الديمقراطية والانتقال الديمقراطي، في البلدان التي نجحت فيها الثورات العربية، وما يجري اليوم في تونس والمغرب، على سبيل المثال، يكشف صعوبات الركون إلى نمط الحكم الديمقراطي، في الصيغ التي استقرّ عليها، وهو يضعنا أمام إشكالاتٍ سياسية جديدة، حيث أصبحت آليات العمل الديمقراطي، المتمثِّلة في القوانين والإجراءات والتوافقات الحاصلة داخل المجال العام، مُهدَّدة بجملة من العوائق التي نشأت وتنشأ في قلبها، فكيف نفسّر ما يجري أمامنا اليوم؟

نتصوَّر أن ما يساهم اليوم في أشكال التراجع الحاصلة في نظام الحكم الديمقراطي، سواء في المجتمعات الصانعة لكثير من مآثرها في عالمنا، أو المجتمعات التي انخرطت في عمليات التمرس بآلياتها في العمل السياسي، يتمثل في الأدوار الجديدة التي أصبحت تقوم بها فضاءات التواصل الرقمية، وما تحمله من صور جديدة لفاعلين سياسيين، اختاروا الابتعاد عن المؤسسات السياسية القائمة، وبناء مؤسّسات افتراضية بمعايير أخرى، حيث تعمل فضاءات التواصل الاجتماعي على تضخيم الأحداث بصورة لا علاقة لها بالأحداث الفعلية. يحصل ذلك بمحاذاة الضمور واللامبالاة الحاصلين في كثير من مؤسسات العمل السياسي القائمة في المجتمع.

لا نتردَّد في القول إن الديمقراطية اليوم محاصرةٌ، بمختلف الفاعلين في قلبها وبصور مختلفة، فهل أصبح الانتقال الديمقراطي في المغرب مُحاصَراً بنظامه وأحزابه؟ وهل النظام السياسي التونسي مُحاصرٌ اليوم بأحزابه ونظامه الرئاسي؟ ويبدو لنا أن الديمقراطية في البلدين مُحاصرة اليوم بشبكة حزبية متآكلة، ومحاصرةٌ، في الآن نفسه، بشبكة عنكبوتية تقول كلمتها بطرقها الخاصة في كل ما يجري، من دون أن تساهم لا في إضاءة الطريق الديمقراطي، ولا في التغيير المطلوب.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".