صورة مع عمّان

12 سبتمبر 2021
+ الخط -

حظيت صورة جويّة لمدينة عمّان، عاصمة الأردن، بتداول واسع أخيراً بين نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي الأردنيين، ولاقت عند أغلب المعلقين انتقاداتٍ لما قالوا إنه "سوء تخطيط" تعانيه المدينة، وغيابٌ للمساحات الخضراء فيها. بينما قال معلّقون آخرون إن الصورة التي التقطت من طائرةٍ تحلّق على مسافةٍ عاليةٍ في الجو إنما تظلم جمال المدينة على أرض الواقع، ولا تظهر أحياءها ومرافقها، بل إنها تقلب اللون الأخضر فيها إلى أسود، نظراً إلى عدم إتقان تصويرها، لجهة درجة الإضاءة وجودة الألوان.

المصور الفوتوغرافي الأردني المشهور، طارق هادي، قال عبر حسابه على "فيسبوك" إن أي صورةٍ تُلتقط من ارتفاع يبلغ نحو خمسة آلاف قدم، ستظهر أي مدينةٍ كما لو أنها مجرّد صفوف من العمران، كما هو حال الصورة التي انتشرت لمدينة عمّان، ما يعني أنه لا يمكن الحكم على تخطيط أو عمران أي مدينةٍ من مثل هذا الارتفاع. وقال هادي، في مقابلة عبر إحدى المحطات الإذاعية المحلية، إن عمّان لا تعاني نقصاً في الأشجار، بل الصحيح أن كثرة الأشجار على أرصفتها تعيق حركة المشاة الراجلين.

من الجيد هنا مراجعة كتاب صدر حديثاً (مارس/ آذار 2021) عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لمؤلفه الباحث الفلسطيني ضرغام شتيه "الفضاءات العامة في مدينة عمّان بين التنوع الحضري والتباين الاجتماعي"، من أجل تكوين حكم موضوعي عن واقع المدينة وأحوالها، خصوصاً من جهة التنظيم والعمران وتوفير مساحات مريحة لسكانها وزوراها.

الكتاب الذي يقع في 320 صفحة، ويمثل رسالة الباحث في الدكتوراه في الدراسات الحضرية والاقتصادية والاجتماعية من الجامعة الأردنية، يلقي الضوء على نمو المدينة منذ منتصف القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت إعلان المملكة الأردنية الهاشمية، والأحداث السياسية والاقتصادية المفصلية التي عرفتها عمّان، تحت وطأة حروب المنطقة وأزماتها، والهجرات التي قدمت إلى عمّان نتيجتها.

تنقسم عمّان اجتماعياً إلى شطرين: غربي غني وشرقي فقير.

يعتبر الباحث أن في عمّان خمسة أنواع من الفضاءات العامة: الفضاءات الشعبية القديمة، وأبرزها فضاءات وسط المدينة، مثل ساحة الملك فيصل وشارع طلال وساحة المسجد الحسيني، كذلك أدراج وسط البلد التي تربط بين أحياء عمّان القديمة، وجبل اللويبدة وجبل عمّان. النوع الثاني هو الفضاءات التي ظهرت مع توسّع عمّان مكانياً، مثل الأسواق والحدائق والساحات في أحياء الشميساني وتلاع العلي والصويفية وعبدون. النوع الثالث مشروعات إعادة التحسين والتجديد، مثل شارع الرينبو وشارع الوكالات وشارع الثقافة. النوع الرابع يسميه الكتاب "الفضاءات النيوليبرالية المعولمة"، مثل مشروع بوليفارد العبدلي والمولات الحديثة والأبراج. النوع الخامس والأخير هو الفضاءات المغلقة التي تمثلها النوادي والروابط ومجالس العشائر والمساجد والكنائس.

توسّعت المساحة المبنية في مدينة عمّان بشكل مطّرد، من نحو 2 كم مربع في عام 1947، إلى نحو 71 كم مربع في مطلع الثمانينيات، ثم إلى نحو 226 كم مربع مع مطلع الألفية الثالثة، وصولاً إلى نحو 423 كم مربع في السنوات الأخيرة. بالتزامن مع ذلك، ارتفع عدد سكان المدينة من نحو 60 ألف نسمة في عام 1948، إلى نحو مليون نسمة في أواخر الثمانينيات، ثم إلى نحو مليوني نسمة في مطلع الألفية الجديدة، ليبلغ نحو أربعة ملايين نسمة في السنوات الأخيرة، وهو ما يشكّل أكثر من 40% من إجمالي سكان الأردن. ما يعني أن الهجرات التي شهدتها المدينة نتيجة الحروب، ابتداءً من هجرة الفلسطينيين نتيجة حروب 1948 و1967، ثم عودة نحو مليون من العاملين الأردنيين في الكويت والخليج مع حرب عام 1991، ثم حرب احتلال العراق عام 2003، هي السبب الرئيسي في توسّع المدينة وزيادة عدد سكانها، ما سبّب تحولات حضرية في أنماط السلوك والاستهلاك وطبيعة السكن، وأنتج من ثم فضاءاتٍ متعدّدة ومتناقضة. ومن الطبيعي أن يؤدّي ذلك كله إلى إرباك خطط التنظيم والتخطيط العمراني لمدينة عمّان وفضاءاتها، أخذاً بالاعتبار أن الاقتصاد الأردني صغير يقوم على الخدمات، ويعد القطاع الصناعي فيه صغيراً ومتعثراً، إلى جانب قطاع زراعي محدود وقطاع سياحي متنامٍ، علماً أن البلد الذي يعمل على استغلال بعض الموارد الطبيعية، كالفوسفات والبوتاس، غير منتج للبترول.

عمّان اجتهدت كثيراً وأنجزت كثيراً، على الرغم من الظروف الصعبة التي عبرتها

تنقسم عمّان اجتماعياً إلى شطرين: غربي غني وشرقي فقير. يتباينان في عدة معايير، كدرجة الثراء ونوعية الخدمات المتوافرة والبنية التحتية والكثافة السكانية والدخل والإنفاق وأنماط السلوك في الحياة اليومية. ويتركز أكثر من 60% من سكان المدينة في أحيائها الشرقية التي تتميز بالاكتظاظ السكاني، بينما تتميز الأحياء الغربية بتباعد مبانيها ووجود فراغات حضرية أكثر.

وإذا كان ثمّة تنوع واسع للفضاءات العامة في عمّان، على ما يرى الكتاب، بين فضاءات مفتوحة وأخرى مغلقة، وفضاءات حديثة وأخرى قديمة، كذلك فضاءاتٍ منفتحة متحرّرة وأخرى دينية محافظة، فإن تلك الفضاءات تشهد تفاوتاً واضحاً بين الحديثة منها التي تشجّع على الاستهلاك، والقديمة التي تشجّع مرتاديها على التفاعل. لكن هذا التفاوت، ووجود فضاءات خاصة للأثرياء، وتراجع نسبة الاندماج الاجتماعي بين سكان شرق المدينة وغربها، لم يمنع وسط المدينة الذي يربط بين جبالها التاريخية السبعة، من أن يكون فضاءً تتفاعل فيه مختلف الفئات، في الساحات والمقاهي والمطاعم والأدراج.

بين الصورة الجوية لمدينة عمّان التي تداولها نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، وكتاب الباحث ضرغام شتيه، ثمّة خيوط من الموضوعية يجب ربطها قبل إطلاق أي أوصافٍ على المدينة التي تتوفر على قدر كبير من جمال الطبيعة والطقس الصيفي المعتدل والثقافة المنوعة. ربما يمكن القول إن عمّان اجتهدت كثيراً وأنجزت كثيراً، على الرغم من الظروف الصعبة التي عبرتها، وباتت توفر لسكّانها اليوم مرافق وفضاءات عديدة منوعة تتجاوز فكرة "الصفوف العمرانية" التي قدّمتها الصورة الجويّة، وذلك لا يمنع أن يطمح أهلها إلى مزيد من التحسين والتطوير، وربما يصح القول إن أكثر النقد الذي يمكن تفهمه إنما ينطلق من التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين سكانها، وانعكاسها على مدى تمكّنهم من الاستمتاع بمرافق المدينة.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.