صواريخ غزة وخرافة التفوّق الإسرائيلي
صواريخ "حماس" عبثية. قال ذات يوم مضى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس. وأراد من ذلك أن يقلل من أثرها ومفعولها في معادلة الصراع مع إسرائيل، انطلاقا من محدودية ما كانت توقعه بإسرائيل. لا أحد يعتقد أن الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة يمكن أن تلحق أضرارا توازي القصف الإسرائيلي، وليس مطلوبا منها أن ترسي التوازن الاستراتيحي الذي كان شعار الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الذي مات ولم يحققه. ليست مهمة هذه الصواريخ ردع إسرائيل عن العدوان، وهي لم تضع ذلك كله على لائحة أهدافها. قد تفعل هذا في المستقبل، وهو أمر غير مستبعد. المطلوب منها اليوم أن تبث شحنةً من الخوف في المستوطن الذي يعتدي على الفلسطيني. يجب أن ينام خائفا، على الأقل.
الجانب النفسي مهم جدا في هذه المعادلة. وقد تبين أثره سلاحا فعالا في كل الحروب، وحين سقطت الصواريخ القادمة من غزة، مساء يوم الاثنين الماضي، على محيط مدينة القدس للمرّة الأولى، شاهد العالم، بالبث الحي، كيف أن الكنيست الإسرائيلي أوقف اجتماعه، وهرع نوابه يتراكضون إلى الشارع. وعلى الطرف الآخر، تلقى الشارع الفلسطيني في القدس جرعةً معنويةً عالية زادت من حماسة المرابطين والمتضامنين الذين كانوا يصلون من مناطق أخرى من فلسطين. وعلى الفور، اشتعلت مواجهاتٌ في مناطق أخرى بين الشباب الفلسطيني وجنود الاحتلال في عدة مناطق.
لو لم تتأثر إسرائيل من صواريخ غزة، لما كانت ردّت عسكريا بهذا العنف، وضربت عمارات سكنية، كما استدعت الاحتياط. هي خاضت عدة حروب ضد قطاع غزة، ولولا القوة والعمليات العسكرية لم ترحل عنه. وأهمية المقاومة هنا أن يشعر المحتل بأن كلفة الاحتلال عالية. وما يطلبه الشارع الفلسطيني اليوم من أبو مازن هو أن يحقق ربع المعادلة التي عزّزتها صواريخ غزة، وأن يستخدم الأوراق التي بين يديه، وليس أقلها ورقة التنسيق الأمني التي تعد عائقا أساسيا في طريق المقاومة الشعبية. ولنا مثال في الانتفاضة الثانية التي اندلعت من القدس عام 2000. كانت انتفاضة الأمن الفلسطيني بقرار من الرئيس الراحل ياسر عرفات. ولكن دور هذا الأمن ينحصر اليوم بحماية إسرائيل، والقدس هي المكان الوحيد الذي يتحرّك فيه الفلسطيني بحرية ضد إسرائيل، والسبب عدم وجود أمن السلطة الفلسطينية.
خرافة التفوق الإسرائيلي سقطت حين انسحبت إسرائيل من طرف واحد من جنوب لبنان عام 2000. وأسقطت الهبّة التي بدأت من حي الشيخ جرّاح خرافاتٍ أخرى ظهرت في الأعوام الأخيرة، وكان هدفها إغلاق ملف الصراع بالشمع الأحمر. وبدأت ذلك إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي نقلت السفارة الأميركية إلى القدس، وسار في ركابها ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، الذي أقام تحالفا مع إسرائيل، وعمل على بناء جسر للتطبيع وفتح الأبواب أمام إسرائيل كي تخترق العالم العربي، إلا أن تطورات الأيام الأخيرة أعادت تصحيح المسار، وهو أن القدس هي البوصلة، ولن تكون هناك تسوية من دونها.
لا يتجاوز عدد سكان القدس 150 ألفا، ولكنها بؤرة المواجهة مع الاحتلال، ومدى صواريخ غزة يغطي كل فلسطين. إذا توافرت إرادة سياسية إلى جانب أداة دفاع عن النفس، فإن المعادلة تختلف كليا، ويستطيع الطرف الفلسطيني أن يتحدّث بلهجةٍ عالية، ولا يتلقى الإملاءات الدولية وتنفيذ شروط إسرائيل. ولو لم تتحرّك غزة، وتقدّم العون للقدس، لأصبحت في نظر الناس مثل قوى الممانعة التي تبين أنها تتاجر بالقضية. وعموما، اختلف الأمر هذه المرّة، فالصواريخ انطلقت من غزة نحو القدس وباقي الأرجاء، ومن أجل نصرة القدس، أوجدت ميزان قوى جديدا لصالح فلسطين.