صناعة المكانة المفقودة
المكانة كلمة مجرّدة متعددة المعاني، قد تعني الوضع القانوني للفرد في المنظومة الاجتماعية، أي المهمة أو الوظيفة التي يشغلها الشخص في الواقع (ضابط في الجيش، مدير مؤسسة، مدرس .. إلخ) أو صفته الاجتماعية (متزوّج، أعزب، أرمل، .. إلخ)، وغير ذلك من التصنيفات التي تندرج تحت هذا المعنى بهذا الشكل أو ذاك. ويمكن القول إن المكانة هي الموقع الذي يشغله الكائن في أي تسلسل هرمي أو منظومة. ولكن هذه الكلمة، بالمعنى الشائع لها، تعني قيمة المرء في أعين الناس، انطلاقا من موقعه في السلم الاجتماعي، والتي تحدّدها عوامل كثيرة، منها الحالة المالية للفرد أو تحصيله العلمي أو منصبه الإداري أو السياسي أو السلالة والنسب أو الموقف المتخذ من موضوع ما، وغير ذلك مما يجعل للمرء قيمةً في المجتمع. وتترافق المكانة الاجتماعية عادةً مع مكتسباتٍ معنويةٍ ومادية، مثل اهتمام الناس بصاحب المكانة، وسعي أفراد المجتمع، في حالاتٍ كثيرة، إلى ربط مصالحهم الاقتصادية بصاحب المكانة هذا.
من جهة أخرى، تخفي المكانة العيوب، ويقول المثل الشعبي ما معناه: أمران لا يجري الحديث عنهما، موت الفقير وفضيحة الغني، ولكن أركان المكانة ليست متوفرة في جميع أبناء المجتمع. وقد كانت دائما محصورةً في دائرة ضيقة. ولذلك يسعى معظم الناس، إن لم نقل جميعهم، إلى الوصول إلى مكانةٍ ما، تجعلهم محط اهتمام المجتمع. ومع الأسف، غالبية السعاة إلى المكانة لا يتمكّنون من الوصول إليها، لعدم قدرتهم على توفير المقوّمات التي ذُكر بعضها، ما يجعلهم يقعون ضحية قلقٍ دائم يتحوّل، في بعض الأحيان، إلى ما يشبه المرض. ويمكن أن نعثر على كميةٍ كبيرةٍ من النماذج التي تحوَل قلق أصحابها إلى مرضٍ على صفحات "فيسبوك"، وتحديدا في عمود التعريف بصاحب الصفحة، فأكثر من نصف الخرّيجين الجامعيين هناك على سبيل المثال لا يعرفون موقع أية جامعة، ولكنهم على "فيسبوك" خرّيجون. كما تجد هناك رجال أعمال وكتّابا وشعراء ومخرجين، وغير ذلك من الصفات التي تجعل للفرد قيمة في المجتمع. وبطبيعة الحال، التحقق من صحة هذه المعلومات أمر بالغ الصعوبة. ولذلك تميل الغالبية إلى تصديقها
ويبقى هذا الإيهام الأخفّ وطأة من بين أنواع ادّعاء المكانة المفقودة، فبعضهم يدعم مكانته المزيفة بوثائق تثبت ذلك، كشهادة دكتوراه مثلا، حيث تنتشر في دول كثيرة جامعات مزيفة جاهزة لمنح شهاداتها المذهّبة الخط لمن يشاء لقاء مبلغ مادي متعارف عليه، ثم يعود الشخص إلى بلده، وقد أصبح دكتورا. وبعضهم يعود وقد أصبح دكتورين، لا دكتورا واحدا، حيث يكون من بين الذين أنعم الله عليهم، فيشتري عدة شهادات دفعة واحدة. أضف إلى ذلك الجامعات التي تمنح شهاداتها الفخرية لمن دبّ وهبّ من رجال السياسة. يستعين بعضهم بالجوائز التي يحصل عليها في مهرجانات خلبية، بعضها لم يسمع بها أحد، أو لا تملك أي قيمة، حيث يمكن لمثل هذه المهرجانات أن تمنح جائزة في الشعر لمن لم يكتب الشعر في حياته. يخترع بعضهم شجرة عائلة، جذورها ضاربة في التاريخ، ويخترع لبعض أجداده مواقف بطولية ومآثر من أنواع مختلفة. وعلى نمط لويس الرابع عشر، تبرز أسماء، مثل جدعان الخامس، أو ما شابه. وفي أحيانٍ كثيرة، يتعرّض هذا المدّعي لمعاناة كبيرة، لكي يستطيع الحفاظ على الوهم الذي اخترعه للآخرين. وقد اختصر المثل الشعبي هذه المعاناة، بوصفه المدّعي بأنه "يحب الكبرة ولو على الخازوق". ولكن ماذا لو سقطت ورقة التوت هذه، ما الذي سنراه خلفها؟
يقول كارل يونغ "تحديد هوية الفرد بوظيفته أو لقبه أمر مغرٍ للغاية، إلى درجة أن كثيرين ليس لديهم وجود آخر غير ذلك الذي تمنحه لهم مكانتهم الاجتماعية. سيكون من غير المجدي البحث عن طابع الشخصية هناك. خلف المشهد الرائع، لن يجد المرء سوى دمية صغيرة مثيرة للشفقة. أي، بكلمة واحدة، الأعباء والألقاب جذابة وساحرة، فقط لأنها تعويضات سهلة عن أوجه قصور الشخصية".