صناعة المحتوى القامع في العراق
فجأة ومن دون سابق إنذار، قرّرت وزارة الداخلية في العراق الشروع بحملةٍ لمتابعة ومعاقبة واعتقال صنّاع المحتوى "الهابط" على وسائل التواصل الاجتماعي ومعاقبتهم واعتقالهم، وقامت بإنشاء منصة "بلّغ" للتبليغ عن كل محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن تصنيفه على أنه محتوى هابط. بعد أيام قليلة فقط من إصدار هذا القرار، وصل إلى المنصّة أكثر من 90 ألف بلاغ عن محتوى سيئ وغير أخلاقي على مواقع التواصل الاجتماعي، لتبدأ وزارة الداخلية إجراءاتها بمتابعة وملاحقة من تثبت إدانتهم بهذا النوع من المحتوى، حيث أصدرت المحاكم العراقية أحكاما بالسجن بين تسعة أشهر إلى سنة واحدة وسنتين على بعض مشاهير صناعة المحتوى الهابط في العراق، بحسب توصيف وزارة الداخلية وتعريفها له.
المحتوى الهابط وفقا لقرار وزارة الداخلية هو أي محتوى خادش للحياء، أو يحمل إيحاءات جنسية أو عبارات مسيئة أو ينتقص من الأموات. وهنا أحاول أن أجمع بعضا من تصريحات مسؤولي وزارة الداخلية العراقية في تحديد مفهوم المحتوى الهابط، ومنها التي صدرت عن مسؤولين في وزارة الداخلية، أن المحتوى الهابط لن يشمل صانعه فقط، وإنما أيضا حتى من يضع علامة الإعجاب على هذا النوع من المحتوى، وأيضا؛ وهنا الخطورة، كل من ينتقد مؤسّسات الدولة أو يهاجم المسؤولين، أو حتى يحاول أن يشوّه صورة العراق أو ينشر خبراً كاذباً، لندخل في أتون تفسيراتٍ لها أول وليس لها آخر صدرت عن مسؤولي وزارة الداخلية العراقية في شهرٍ مضى.
تشرح وثيقة جرى تسريبها عن هيئة تنظيم الإعلام والاتصالات مضامين المحتوى الهابط، شكّلت، هي الأخرى، صدمة لأوساط المتابعين للشأن العراقي، فهي تعني تدشين عهد جديد من الحرب على الحريات وقمع الآراء، الذي يمكن أن يعيد العراق إلى زمن الرأي الواحد والصوت الواحد، فهذه الوثيقة التي قالت عنها الهيئة لاحقا إنها أولية وليست نهائية، تعتبر كل محتوى فيه تهكم أو نقد ضد رموز الدولة، السياسية والدينية والتنفيذية والقضائية، بمثابة محتوىً هابط يجب محاكمة صاحبه عليه. أكثر من ذلك، فهذه الوثيقة تطالب صاحب أي حسابٍ على مواقع التواصل يمتلك أكثر من 25 ألف متابع أن يقوم بتسجيل وتوثيق الحساب لدى الهيئة، في تدخلٍ مقيتٍ في مفهوم الحريات العامة.
مما تحدّث به ضباط وزارة الداخلية عن تفسيراتهم معنى "المحتوى الهابط" هو ذلك المحتوى الذي يمكن أن يثير النعرات الطائفية أو العرقية أو الدينية
وقد قال مركز النخيل للحقوق والحريات الصحافية في العراق، في بيان له، مهاجما الوثيقة، إنها تضمّنت "مفردات وفقرات خطيرة جداً وأخرى انطوت على عباراتٍ فضفاضة يمكن استغلالها وتحريفها للتقييد من الحريات وتصفيات الخصومات الشخصية". وعبر عن خشيته من "استغلال" حملة "مكافحة المحتوى الهابط" التي تقودها الحكومة العراقية في "تطويع القوانين والتعليمات للنيْل من الصحافيين والمدوّنين وتقييد الحريات".
الغريب أن وزارة الداخلية استندت في حملتها ضد صنّاع المحتوى الهابط على قانون العقوبات العراقي 111 الصادر في 1969، على الأخص المادتين 403 و226 المتعلقتين بتجريم الإساءة للذوق والآداب العامة وإهانة مؤسّسات الدولة وموظفيها، ولك أن تتخيّل أي كارثة يحملها مجرّد اللجوء إلى مواد صدرت قبل أكثر من 50 عاما، يوم كان العراق يوصَف بأنه بلد ديكتاتوري، ناهيك طبعا عن أنها موادّ قانونية لا علاقة لها بالمحتوى الرقمي، وإنما هي خاصة بعناوين عريضة شرحها القانون العراقية وقتذاك، ولا يمكن بأي حال أن تكون مشابهة لواقع ما يُعرض اليوم على منصّات التواصل الرقمية.
مما تحدث به ضباط وزارة الداخلية عن تفسيراتهم معنى "المحتوى الهابط" هو ذلك المحتوى الذي يمكن أن يثير النعرات الطائفية أو العرقية أو الدينية، غير أننا لم نشهد اعتقال أو ملاحقة العشرات أو ربما مئات من السياسيين أو الإعلاميين أو المغرّدين ممن لا يتوقفون عن نشر محتوى طائفي وقبيح، ويهاجم كل من يختلف معهم بأقذع الألفاظ والعبارات.
المحتوى الهادف، وليس الهابط، هو الذي سيكون هدفا لهذه الحملة، والتأويلات القانونية لأي رأيٍ معارض ستكون جاهزة
توقيت الحملة التي شُنّت على من يعرّفون بصنّاع المحتوى الهابط هو الآخر غير بريء، ففي خضم تواصل انهيار سعر صرف الدينار أمام الدولار، خرجت الداخلية العراقية بهذا الإجراء وكأنها تسعى إلى حرف الأنظار بعيدا عما يجري في سوق المال وعمليات تهريب الدولار المستمرّة من العراق وارتفاع سعر صرف الدولار، رغم كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة.
من يتابع الشأن العراقي يجد أن منسوب الحريات في هذا البلد ارتفع تدريجيا، ولعل مردّ ذلك أن العراقيين اكتشفوا تدريجيا أيضا معنى حرية الكلام، خصوصا وأن الدستور العراقي يكفل حرية التعبير ولا يُحاسب عليها. وكانت ثورة تشرين 2019 من ثمرات ارتفاع منسوب الحريات العامة وحرية الانتقاد. وبالتالي، بدأت سلطة الأحزاب الحاكمة تستشعر خطر هذه الحرية، فكان لا بد من تجريم الانتقاد بحق مؤسسات الدولة و"رموزها". وهنا أصبحنا أمام مفهوم فضفاض وواسع، حيث يمكن للدولة أن تكيّف كل انتقاد، حتى لو كان بناءً على أنه "محتوى هابط"، وبالتالي نعود أدراجنا إلى زمن الرأي الواحد والصوت الواحد.
أيّدت أحزاب السلطة في العراق، كلها على اختلاف ألوانها ومسمياتها، هذه الحملة وشجّعتها، لأنها تعرف جيدا أن لا مناص لها سوى مواجهة الحريات العامة بالقمع، فالمحتوى الهادف، وليس الهابط، هو الذي سيكون هدفا لهذه الحملة، والتأويلات القانونية لأي رأيٍ معارض ستكون جاهزة، لندخل من جديد دائرة التفسيرات والتأويلات، وقانون 4 إرهاب سيئ الصيت ليس عنّا ببعيد، يوم تعسّفت السلطة في استخدامه ضد خصومها ومعارضيها.