صناعة السينما و"الآخر" في الهند
أثار الفيلم البوليوودي "ملفّات كشمير"، في العام الماضي، قضية هجرة الهندوس من كشمير، في تسعينيات القرن الماضي، مصوّراً إياها "إبادةً جماعيةً" تختبئ وراءَ "مؤامرة الصمت المُتَعمّد". وجاء الفيلم بعد عامين من إلغاء حكومة رئيس الوزراء الهندي، ناريندار مودي، حكماً ذاتياً كفله الدستور الهندي لكشمير، وأطلق هتافات الكراهية ضد المسلمين في دور العرض. اليوم، وعلى غرار الفيلم السابق، بميزانية صغيرة، وفي غياب كبار نجوم "بوليوود"، وبسيناريو نمطي يعجّ بمصطلحات ممجوجة ومبتذلة عن "نكاح الجهاد"، يثير فيلم "قصة كيرالا" جدلاً يُعمّق حالة الاستقطاب الحادّ في المجتمعات الهندية. القاسم المشترك الأكبر بين الفيلمين إشادة مودي، وغيره من قادة حزب بهاراتيا جاناتا، بالفيلمين، والمصادقة عليهما، في استثمار سياسي واضح ومكشوف يروّج "الإسلاموفوبيا".
يروي الفيلم البوليوودي الجديد قصة أربع نساء هندوسيات ومسيحيات، تحوّلن بعد عملية "غسل دماغ" إلى الإسلام، وانضمْمن إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق، ليجدن أنفسهن، بعد مقتل أزواجهن، في سجن بأفغانستان. أثارت حملة الفيلم الدعائية في نوفمبر/ تشرين الثاني ضجّة واسعة، خصوصاً مع زعم الإعلان التشويقي (تريلر) بأن 32 ألف فتاة هندية التحقن بصفوف "داعش". وبينما قال منتقدوه إن قصة الفيلم تفتقر إلى أدلة إحصائية، أصرّ صُنّاعُه على أن أحداثه تستند إلى قصص حقيقية تطلّبت سنواتٍ من البحث. من الواضح أن الرقم "دعائي" ومبالغ فيه، فلا تذكُر، مثلاً، تقارير وزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب في عام 2020 أكثر من 66 مقاتلاً من أصل هندي انتسبوا لـ"داعش" اعتباراً من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. تراجعت الحملة الترويجية عن الرقم المذكور، وذهب الإعلان المعدّل إلى أن الفيلم يروي قصة حقيقية لفتياتٍ من مناطق متفرّقة في ولاية كيرالا الهندية، وهو ما ينسجم مع تصريحاتٍ سابقة لمسؤولين هنود أن أربع نساء من ولاية كيرلا انضممن إلى تنظيم داعش يقبعن في سجن بأفغانستان.
بحسب مركز أبحاث بيو، لدى الهند أحد أعلى مستويات الأعمال العدائية الاجتماعية في العالم على خلفية دينية
حقّق الفيلم بعد عرضه في 5 مايو/ أيار الحالي نجاحاً تجارياً لافتاً في شبّاك التذاكر، كأعلى خامس فيلم هندي من حيث الإيرادات في عام 2023. وبينما أشاد المؤيّدون بالفيلم ورأوا أنه تعامل مع "قضيةٍ مهمةٍ تستحقّ المناقشة"، واجه الفيلم، على الضفة الأخرى، عدة قضايا قانونية واحتجاجات، واتهم كل من المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي صانعي الفيلم بالترويج لأجندة سانغ باريفار (القومية الهندوسية). تزامن إطلاق الفيلم مع حملة انتخابية ساخنة في ولاية كارناتاكا، أشاد خلالها مودي بالفيلم الذي "فضح عواقب الإرهاب في المجتمع"، وأعفي "قصة كيرالا" من الضرائب في ولايتين خاضعتين لسلطة حزب بهاراتنا جاناتا، كما استضاف بعض أعضاء الحزب عروضاً ووزّعوا تذاكر مجانية. مع ذلك، لم يحقّق هذا الاستثمار السياسي في الفيلم أهدافه الانتخابية المباشرة، بعد أن هزم الحزب، قبل أيام قليلة، في ولاية كارناتاكا، فاقداً بذلك الولاية الجنوبية الوحيدة التي سيطر عليها بالمطلق، ما يعني أن تلك الولاية لم تتقبّل بما يكفي سياساته القومية الهندوسية، وأن أفلام الاستثمار السياسي مهما أحدثت من ضوضاء فإنها لا تجذب من الأشخاص إلا من يدعمون مضمون رسائلها، فهي مصمّمة أولاً للتأثير في الاتباع مهما استفزّت "الخصوم".
الاختلافات طبيعية بين البشر، وتكمن المشكلة في منح بعضها امتيازاتٍ ومزايا سياسية على حساب الآخر، ومن ثم إضفاء الطابع المؤسّسي عليها، و"قصة كيرالا" ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، في خدمة هذا التوجّه، حين يعالج مسألة التشدّد الإسلامي انطلاقاً من سياسة "الجماعة" بعيداً عن الحكمة السينمائية، وانطلاقاً من خطاب "صناعة الآخر" بدلاً من تعزيز خطاب "الانتماء". هنا تكمن خطورة التوظيف السياسي للفن، الذي رغم استقلالية النسبية عن الواقع، فإن الفاعلين فيه متنافسون سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتتشعّب ارتباطاتُه بحقول الاقتصاد والسياسة والفكر، ما يجعله مولّداً تمثلاتٍ تنتج الآخرية وترعاها، ومأسسة تلك التمثيلات عن الآخر يعني أنها لم تعد محايدةً في نقل الواقع، بل تعيد إنتاجه في صورة تصبح واحدة من مفردات الخطاب السائد، ليس لها خارجه أي وجود موضوعي.
يزداد مستقبل الأقليات في الهند غموضاً، باتوا مواطنين من الدرجة الثانية، في ظل دينوفوبيا تعيد إنتاجهم "آخر" في كل سياق ممكن
وبحسب مركز أبحاث بيو، لدى الهند أحد أعلى مستويات الأعمال العدائية الاجتماعية في العالم على خلفية دينية، وتصاعد هذا الاتجاه منذ وصول مودي إلى رئاسة الوزراء لأول مرة في عام 2014، مع حصول حزبه على أغلبية واضحة في البرلمان، حين مضى في بناء تحالفاتٍ محليةٍ لترسيخ الأيديولوجية الهندوسية المعبّرة عن روح حركة هندوتفا التي تحوّلت معها الهندوسية من طريقة حياة من دون سلطة مركزية أو حتى مدوّنة سلوك راسخة تُلزم جميع أتباعها المنقسمين لغوياً وإثنياً وطائفياً، إلى قوميةٍ ترسّخ الهيمنة السياسية والثقافية على أساس الأغلبية الديمغرافية للطائفة الهندوسية. تدفع "هندوتفا" بالأسطورة القائلة إن المسلمين والمسيحيين في الهند هم أساساً نتاج تحوّل أسلافهم القسري، وإن هذه الممارسة مستمرّة، ما يعرّض العقيدة الهندوسية للخطر، وتنتقد الدستور والنظام السياسي العلماني للدولة. ستكون سينما بوليوود أداة خطرة في أيدي هذه الأيديولوجيا، لا سيما إذا علمنا أن 14 مليون هندي يذهبون يومياً إلى دور السينما، معظمهم تستقطبه بوليوود بـ800 فيلم سنوياً باللغة الهندية الرسمية الأكثر تداولاً، أي تقريباً ضعف إنتاج هوليوود، وكثيراً ما تعيد إنتاج أفلام حظيت بشعبيةٍ جماهيريةٍ أنتجتها مدن هندية أخرى في مستوى إنتاجي أعلى من الجاذبية والإبهار، تتمتع بمرونة غريبة حين تصوّر، في أحيان كثيرة، كما يقال، المشهد نفسه لأربعة أفلام مختلفة، بالممثلين أنفسهم، وبالخلفيات نفسها، وفي بعض الأحيان يكون السيناريو لا يزال مكتوباً بخط اليد.
مع هذا التوظيف الأيديولوجي لسينما بوليوود، يزداد مستقبل الأقليات في الهند غموضاً، وهم باتوا مواطنين من الدرجة الثانية، في ظل دينوفوبيا تعيد إنتاجهم "آخر" في كل سياق ممكن. فبينما توقّع صندوق الأمم المتحدة للسكان في إبريل/ نيسان الماضي أن يتجاوز التعداد السكاني في الهند نظيره في الصين بحلول منتصف العام الحالي، فضّل مودي تأجيل أي إعلانٍ رسميٍّ عن الإحصاء السكاني حتى عام 2024، ليتزامن مع ترشّحه لولاية ثالثة على التوالي، في توظيفٍ محتملٍ لخطر "ديمغرافي إسلامي" مزعوم يتهدّد الهند، مع تقديراتٍ بارتفاع تعداد السكان المسلمين بحلول عام 2050، وفقاً لمركز أبحاث بيو، إلى 311 مليوناً (18.4%)، ما يعني أنها ستكون موطناً لأكبر عدد من السكان المسلمين في العالم. حين نشر الفاتيكان في 1985 دراسة ذهبت إلى أن تعداد المسلمين في العالم قد تجاوز لأول مرة في التاريخ عدد الكاثوليك، انطلقت التكهّنات بحتمية الصدام بين الإسلام والغرب، وبدأت جذور الإسلاموفوبيا المعاصرة، في تكريس نظرة إلى الإسلام على أنه "آخر" متفرّد، لا يحوز قيماً مشتركة مع الثقافات الأخرى، ولا يؤثّر أو يتأثر بها، بل هو كتلة واحدة متجانسة تستمدّ مقوّماتها من خارجها. تطمس هذه الصورة المتمثلة إعلامياً وتاريخياً الواقع والتاريخ، وتجعل العداء للمسلمين مقبولاً ومبرّراً بدافع الخوف منهم، أما العملية المستمرّة لـ"تجفيف منابع الإرهاب"، التي باسمها انتهكت حقوق الإنسان بالجملة وبالمفرّق، فلم تعلن انتصارها بعد، ذلك أن "تجفيف منابع الإرهاب" لم يعد ممكناً من دون تجفيف موازٍ لمنابع الإسلاموفوبيا خصوصاً، والدينوفوبيا عموماً.