صلاح عبد الله .. الرجل الذي رأى

22 فبراير 2022
+ الخط -

الكتابة عن صلاح عبد الله صعبة جدا، خصوصا بعد ساعات من وفاته. كان صلاح سهلا.. سهلا في شعره، في نثره، في حكيه. سهلا في تناوله التراث العربي، شرحه "الأغاني"، كتابه الأثير، تدريسه تاريخ الأديان، تخصّصه، وتعرّضه لأكثر الأفكار تركيبا وتعقيدا، ولذلك الكتابة عنه صعبة. هل كان صلاح عبد الله كفيفا حقا؟ رأيته في ميدان التحرير وهو يشارك الناس الهتاف والجري والكرّ والفرّ، رأيته وهو يحفظ شوارع المطرية وعين شمس، ويصفها وصفا دقيقا، ويتّخذ من المحال واللافتات والباعة علامات، رأيته وهو يحفظ معرض الكتاب والناشرين وأسماءهم وأماكنهم التي لا تتغير، بل ويتندّر على ملامح بعضهم، أمامهم، وملابسهم، ونظرتهم ومشيتهم، وطبعا لهجتهم، وهم يضحكون قدر ما يندهشون، كيف له أن يعرف هذا كله، وهو الذي ولد كفيفا، ولم ير النور والألوان.
البدايات كثيرة، الحكايات كثيرة، التجارب كثيرة، المواقف كثيرة، حتى الموت لا يمكنه أن يضع نقطة في آخر السطر. اختار صلاح أن يودِع أشعارَه صدور الناس، لا بطون الكتب، نشر ديوانا واحدا، تحت الضغط، فيما شعرُه يتجاوز عشرة مجلّدات، لو جمعناه، كان يؤلف، في عقله، ويحفظ في عقله، ويروي لنا من عقله، ثم ينسى ويكتب جديدا بالطريقة نفسها، ثم يعود فيتذكر شعره القديم ويقوله، على البديهة، فإذا بأبيات تختفي وأخرى تظهر، وكان يكتب، أحيانا، إذا زاره مزاج الكتابة، دواوين مؤجلة، كتابات مؤجلة، أحلاما مؤجلة، زواجا مؤجّلا، وطنا مؤجّلا، وموتا، ليس كصاحبه، لا يعرف التأجيل. حكايات صلاح وتجاربه لا تقل "مصرية" عن أشعاره. رجوته، غير مرّة، أن يدوّنها، ولم يلتفت، حكاياته مع شيخ الكتاب، الكفيف مثله، شيوخ المعهد الأزهري، أساتذة دار العلوم، ومقالبه فيهم، حكاياته مع أصدقائه، وشهاداته عنهم، عبد الوهاب المسيري، وعمّار الشريعي وسيد حجاب وأحمد بخيت وفرج فودة ومحمد نوح، وغيرهم كثيرين.
حاول صلاح مع الكاميرا، وكان حضوره مبهجا، لكن ليس مثل حضوره الحقيقي، العفوي، كان يرى الكاميرا، أكثر مما تراه، ويعمل لها حسابا، كانت تحجزه أحيانا عن أن يكون كما عهدناه، منطلقا بلا قواعد بلا حدود بلا محاذير بلا خطوط حمراء، حرّا طليقا، حتى من حسابات الانحيازات والأيديولوجيات والأفكار والصداقات، ما "يرى" ومن بعده الطوفان، ظهورات كلها ناجحة، مبهجة، مبهرة، كان أبرزها مع عبد الرحمن يوسف في برنامج صفحة الرأي، ولكن من يعرف صلاح جيدا يعرف أن وراء الكاميرا المزيد والمزيد، نهر متدفق من الشعر والمعرفة والبهجة والسخرية من الحياة وبها ولها، وانحياز، عقيدي، للناس وأحوالهم وأوجاعهم ومصائرهم.
لم يكن الموت هاجسا، بل مطلبا، لا ليرتاح، بل ليفهم، كانت أسئلته أيضا مؤجّلة، ينتظر الموت ليحصل على الإجابة، أسأله: هل تاريخ الأديان يدفع صاحبه إلى الإلحاد؟ فيجيب: "أحيانا، اقتربت من الإلحاد في شبابي"، ومن أعادك؟ "القرآن"، ثم ينطلق في لغة، مشحونة بالمعرفة والعاطفة، في آن، يتحدّث عن التراث العربي، شعره ونثره، وأيامه ولياليه الطويلة معه، قارئا، وحافظا، ومريدا، وكيف أن هذا كله، لا يساوي شيئا أمام بلاغة القرآن، وإعجازه. "وحده القرآن يحول بيني وبين التمرّد، فلا يمكنني، وأنا ابن البلاغة العربية وربيبها، أن أدّعي، ولو بيني وبين نفسي، أن هذا من كلام البشر، قد لا أكون متدينا، كما ينبغي، لكنني أؤمن يقينا، أنه الحق".
عاش صلاح عبد الله أيامه الأخيرة وحيدا، بعد رحيل أمه، يقاوم المرض والإحباط من أحوال البلد، ويسمع من الناس والباعة في حارته كلاما عن الأسعار المرتفعة، والعيشة الصعبة، ويكتب عنهم، وبهم، قصائد ويرسلها إلى أصدقائه، عبر "واتساب" أو "كلوب هاوس". يتعزّى بالشعر، وبغد قد يأتي. وفي مناقشة أخيرة عن أحوال التدين المصري: يسخر صلاح من الخطابات التنويرية بوصفها لـ"بصمجية"، لا علاقة لهم بالدين وتاريخه وتراثه ولغته. لماذا إذن يسمعهم الناس؟ "لأن السوق وحش".. والوعي الديني وثني، لا تراثي. والناس بين شقّي الرحى. مع السلامة، يا صلاح.