صدمة درنة وفرصة استعادة المسار السياسي في ليبيا

19 سبتمبر 2023
+ الخط -

بينما تقف ليبيا أمام الانتخابات تتنازع آلية للخروج من المراحل المؤقتة، فإذا بها تواجه كارثة بيئية تفاقمت آثارها في مدينة درنة، لتكشف عن عيوبٍ مستقرّة في السياسة الليبية، فما تثيره تداعيات كارثة السيول يرتبط بالقدرة على الانتباه إلى المشكلات المزمنة. فعلى الرغم من مرور عقد على المراحل الانتقالية، ظلت ليبيا أسيرة حلقة مفرغة اتجهت فيها البلاد نحو الانقسام والتفكك، ما يثير التساؤل عن مدى مساهمة صدمة الكارثة الطبيعية في تحفيز فرصة التقدّم في إعادة البناء بعد حقبة معمّر القذافي والانتقال السياسي.
ويساعد تناول حالة السلطات القائمة على إدراك الثبات والتغير لدى التعامل مع الكوارث الإنسانية، وخصوصاً ما يتعلق بأولوية نظر سلطات الأمر الواقع إلى الالتزامات السياسية والإدارية، ومدى قدرة المجتمع على تجاوز التصنيفات الصناعية. وفيما يتعلق بدور الحكومات، يمكن ملاحظة تسارع الاستحواذ على إدارة الأزمة وتسييرها. وبينما ذهبت تقديرات حكومة الوحدة الوطنية إلى رفض المساعدة الدولية والاكتفاء بالموارد المحلية، بدت حكومة شرق ليبيا والمجتمع أكثر ترحيباً بالمساعدات الدولية. تمثل هذه الجدلية واحدة من تباينات السياسة في ليبيا، فهي أقرب إلى حالة من المخالفة التلقائية لموقف الآخر والانصراف عن البحث عن الأرضية المشتركة، لتبدو تطلّعات إثبات السلطة والشرعية واضحة في الخطاب السياسي للمسؤولين الليبيين.
ومع بداية الأزمة، ظهرت ثنائية السلطة، فقد استقرّ موقف حكومة الوحدة الوطنية على صعوبة تغطيتها المنطقة الشرقية، واكتفت بالحديث عن تخصيص 2.5 مليار دينار ليبي، وعدم الحاجة لمساعدات دولية والاعتماد على المؤسّسات الليبية في تغطية حاجات الإغاثة. وعلى الوجه المقابل، أكّد خطاب خليفة حفتر على ولاية حكومة شرق ليبيا برئاسة أسامة حمّاد على تسيير شؤون الإغاثة وتوفير المعدات اللازمة لتأهيل الحياة في درنة، وخاطب المصرف المركزي لتوفير التمويل اللازم، كما رحّب بالمساعدات الخارجية.

تتفاقم تداعيات مأساة درنة تحت وطأة الوعي الانقسامي لدى شاغلي مواقع السلطة، وتنافسهم على إظهار القدرة على تَحمّل المسؤولية

وعلى خلاف هذا الانقسام، شكّلت الجهات التشريعية والسلطة القضائية عامل وحدة الدولة، فكما تناول مجلسا النواب والأعلى للدولة الوضع في الجبل الأخضر كمسؤولية مشتركة، كان ظهور النائب العام، الصديق الصور، مُعبّراً عن شمول سلطة الدولة لكل الإقليم والسكان. تُرسّخ هذه السياقات الاعتراف بالوضع القانوني لحكومة شرق ليبيا، وفي الوقت نفسه، توفّر أرضية لتطوير مناقشات الانتقال السياسي. يتضافر هذا التوجّه مع سلوك جمعي في المدن الليبية، يقوم على استعادة الثقافة السياسية للوحدة، ليس ما يتعلق بمظاهر التكافل وصلاة الغائب فقط، لكنه يستدعي الروابط الطبيعية بين القبائل.
وتحت ضغط الكارثة، بدت ليبيا أمام تحدّي التخفيف عن معاناة مدن الجبل الأخضر ودرنة من خلال تساند الخدمات العاجلة وقصيرة المدى. وتتفاقم التداعيات تحت وطأة الوعي الانقسامي لدى شاغلي مواقع السلطة، وتنافسهم على إظهار القدرة على تَحمّل المسؤولية استناداً لصلاحية تخصيص الأموال اللازمة للإعمار. ويرتبط التحدّي الأساسي بغياب مراجعة الحكومات عقودا طويلة؛ فخلال المراحل الانتقالية، لم تشهد ليبيا تقدّماً ملموساً لأيٍّ من برامج إعادة البناء في قطاع الخدمات العامة أو المصلحة الوطنية أو توحيد المؤسّسات. وخلال الأشهر الأخيرة، ثار نزاع على تنظيم النفقات العامة، ليكشف عن عُمق الانقسام وانحسار التوافق حول الأسس المشتركة لوحدة الدولة. وتوضح مقترحات اللجان المالية العليا مدى الرغبة الكامنة في الهيمنة على أجهزة الخدمة المدنية.

تبدو قضية ليبيا غير مرتبطة بكفاية الإغاثة بقدر الحاجة لتعافي الدولة من الانقسامات التحتية

في هذا السياق، يمثل تعدّد السلطات القشرة الخارجية للأزمات الهيكلية والخصائص السلطوية للمجموعات الحاكمة، حيث تعمل الأجهزة التنفيذية والتشريعية على مسارات متنافسة لإثبات جدارتها بالسيطرة المكانية. لم تقتصر هذه الظاهرة على تعدّد الحكومات والجماعات المسلحة، لكنها ارتبطت بتكرار احتجاج القبائل على تهميش الحكومة وإهمالها مناطقهم، فقد أصدر عديد من القبائل وأفراد الخدمة المدنية بياناتٍ للمطالبة باستحقاق المرتبات، أو تمكين المجتمع المحلي من بعض الخدمات في صورةٍ تعكس جانباً من خصائص الدولة الفاشلة.
وعلى أية حال، تبدو المعضلة السياسية ماثلة في تزامن ترتيبات مرحلة إعادة البناء، ما بعد القذافي، ضمن مشكلاتٍ هيكلية، كان أبرزها في عدة مستويات، الهدم المتبادل للمؤسّسات، إطاحة الإرادة الشعبية وحرمانها من تقرير نظام الحكم والانحراف إلى صراعاتٍ فرعية. شكلت هذه الظواهر ملمحاً رئيسياً لغياب كيان الدولة. وعلى أية حال، من الصعوبة قراءة تداعيات الإعصار بمعزل عن مشكلات تأهيل المناطق المدمّرة جرّاء الحرب الأهلية والانقسام السياسي وتأهيل النازحين. ترسم خريطة المآسي مدى انهيار السلطة المدنية أو انصرافها عن مهام التعمير. ولذلك، لا تُعد وفرة المخصّصات المالية حلاً ملائماً لكتلة الأزمات المتلاحقة والمتراكمة على مدى العقد الماضي، سواء بسبب كِبَر حجم الفساد أو تدهور أجهزة الخدمات العامة. ولذلك، تبدو قضية ليبيا غير مرتبطة بكفاية الإغاثة بقدر الحاجة لتعافي الدولة من الانقسامات التحتية، والبدء في مرحلة الانعتاق من المرحلة الانتقالية. لم يقدّم البرلمان بجزأيه خريطة طريق مستقرّة للانتقال السياسي، فيما يعمل على تكرار البقاء في الحلقة المفرغة، فمنذ صدور مقررات لجنة 6 + 6، ظلت مقترحات قوانين الانتخابات محلّ تطلع لتوسيع التعديلات وتفريغها من أي مضمونٍ مناسب للحل السياسي.

سوف تكون المرحلة التالية أكثر ارتباطاً بتساند الوعي المجتمعي بأزمة السلطة واتخاذه أساساً لإكراه السلطات على التخلّي عن التموضع داخل الأزمة السياسية

وعلى مدى السنوات الماضية، شكّل تَحَيز المشرّع الليبي، منذ 2011، واحدة من أدوات تفكيك الدولة. وشكلت عيوب قوانين الانتخابات عاملاً أساسياً في استمرار النزاع على المسار الانتقالي، وذلك بجانب الصراع بين المجموعات السياسية والعسكرية على ميراث معمّر القذافي. ً وفي هذا السياق، لم يتجاوز دور الانتخابات سوى تطوير الأزمات السياسية وبَعث الخلافات الجذرية حول تعريف الدولة، فقد تبنّت مقترحات قوانين الانتخابات نموذجاً معاكساً لتماسك الدولة، فبدلاً من تجميع قوتها، سارت نحو إثارة الانقسامات الإقليمية والجهوية، بجانب إضعاف القوة التمثيلية للمؤسّسات إلى أقلّ من 25% من إجمالي الناخبين، بحيث صارت محلّ صراع بين القوى المتنافسة عليها. وبجانب مشكلة التمثيل السياسي، تراكمت مشكلات الأمن في غرب ليبيا، حيث تكشف أزمة اللواء 444، في أغسطس/ آب الماضي، عن تفتّت السلطة وارتهانها لصراعات المسلحين سنوات عدة وفقدان القدرة على ضبط النظام.
ويمكن القول إن عدم قدرة حكومة الوحدة الوطنية على الولوج إلى الشرق ومتابعة مهامّها نهاية مرحلةٍ لعبت فيها الأمم المتحدة دور صانع الأزمات وتثبيت حالة الانقسام، مع وضوح أزمتها مع جامعة الدول العربية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتراجع الثقة فيها بعد تواصلها الرسمي مع إسرائيل، ما يرجّح تهميش مكانتها السياسية. وبالتالي، سوف تكون المرحلة التالية أكثر ارتباطاً بتسانُد الوعي المجتمعي بأزمة السلطة واتخاذه أساساً لإكراه السلطات على التخلّي عن التموضع داخل الأزمة السياسية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .