صادق العظم .. التعلمن والتأسلم
مع اقتراب الذكرى السادسة لرحيل المفكر صادق جلال العظم؛ يؤرّقني هذا السؤال: هل حقاً قال صادق إنّ "الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمتْ أو تعلمنتْ، وهي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكلّ البديهيات القديمة، وأنا، العبد الفقير لله ولحرية الإنسان، سأبقى معها، حتى لو التهمتني، حتى لو كنتُ من ضحاياها، حتى لو دفعتُ ثمناً غالياً جداً لا يقل عن حياتي. سأبقى منحازاً لها، ما دمتُ قادراً على التنفس"؟
يجري تداولُ هذا الكلام في الصحافة وعلى "السوشيال ميديا"، منذ سنوات، ويبذل بعض الكتاب جهداً استثنائياً في تحليله، واستقرائه، واستخلاص النتائج والعبر منه. ببساطة؛ لم يقل المرحوم صادق هذا الكلام، ولا يمكن أن يقوله، لكن يبدو أنّ الذين يلحّون في تكراره، يريدون أن يثبتوا لأنفسهم، وللآخرين، أنّ لثورتنا مفكّريها الذين ينظّرون لها ويضبطون إيقاعها. وهذا يدل على نيات طيبة، والدكتور صادق وقف مع الثورة بالفعل، وتحدّث عنها مطولاً في حواراته الصحافية والتلفزيونية. لكن، هل يجيز لنا هذا أن ننسب إليه كلاماً لم يقله؟
لم يكلف أيٌّ من ناقلي تلك العبارة خاطرَه بوضع إشارة مرجعية للفكرة، هل جاءت ضمن مقالةٍ كتبها صادق؟ أم في مقابلة تلفزيونية؟ أم حوار منشور؟ للبرهنة على استحالة صدور مثل هذا الكلام عن صادق العظم، تعالوا نتأمل هذا التركيب اللغوي العجيب الوارد في الجملة الأولى: الثورة هي ثورة سواء تَعَلْمَنَتْ أو تَأَسْلَمَتْ. أولاً؛ هذا النحت اللغوي (تأسلم وتعلمن)، يُستخدم بصيغة سلبية دائماً، فيقال إنّ فلاناً من الناس: تلأمن، تفلسف، تفصحن، توسخن، ولا يمكن أن يورده مفكر كصادق بوصفه مصطلحاً فلسفياً. ثانياً؛ إذا سلّمنا بأنّه يمكن أن يستعمل هذا النحت اللغوي الغريب، سنصبح أمام مشكلة أكبر، أنّ الجمع بين المتناقضين الكبيرين، التعلمُن والتأسلُم، جائز. هذا الموقف التوفيقي يمكن أن يصدُر عن كاتب صحافي مبتدئ، ينشر كتاباته في بعض المواقع الإلكترونية التي أحدثت خلال الثورة، ولا بد أن نتذكّر، هنا، أنّ صادق العظم ليس مفكّراً علمانياً عادياً، بل إنّه سُجن في لبنان، أواخر الستينيات، بسبب كتابه "نقد الفكر الديني" مع أنّ الرجل ليس معادياً للأديان، بدليل الحوار المهم الذي أجري معه بعد حوالى سنتين من انطلاق الثورة، على قناة فرانس 24، ووجّه إليه المحاور سؤالاً عن الفكرة التي يطرحها النظام السوري، وهي أنّه نظام علماني، بينما الثورة إسلامية .. فردّ بأنّ النظام السوري طائفي أكثر منه علمانياً، وفي عهده، وبسبب عقدة نقص طائفية، بنى عدداً لا يستهان به من الجوامع، ومعاهد تحفيظ القرآن. وأضاف أنّ الثورة ليست إسلامية، لكنّ الناس عادة، في الأيام الصعبة، يرجعون إلى الدين، وخلال الأزمات الكبرى لا يعود الإسلام كما نعرفه عند عامّة الناس، عبادات ومعاملات، بل يمكن أن نسميه "إسلام توتُّر عال" وهنا تحاول التيارات السلفية الجهادية أن تستغلّ الوضع باجتذاب الشباب إليها. وكلّ ما نأمله أن يعود إلى طبيعته بعد إحداث التغيير الذي قامت الثورة من أجله.
لا علاقة للقسم الأخير من العبارة المنسوبة إلى صادق جلال العظم بفكر، أو فلسفة، ولا حتى بمنطقٍ سليم يصدر عن رجل عادي. ناسٌ كثيرون يقولون، لأجل إظهار التواضع: أنا العبد الفقير لله. لكنّ "العبد الفقير لله ولحرية الإنسان"! هذه جديدة، بل وطريفة، والأكثر طرافةً أن يفترض مؤلف العبارة أنّ مخابرات نظام الأسد قد وضعت خطة وصلت بموجبها إلى الدكتور صادق حيث كان يقيم في أميركا، وبدأت تضغط عليه لكي يتخلّى عن الثورة، فيقول: أبداً، سأبقى معها، حتى لو التهمتني، حتى لو كنتُ من ضحاياها، حتى لو دفعتُ ثمناً غالياً جداً لا يقلّ عن حياتي. سأبقى منحازاً لها، ما دمتُ قادراً على التنفس. أهذا معقول؟