شيطنة الروس

04 مارس 2022

(فاسيلي كاندنسكي)

+ الخط -

على عكس الأيام التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي كانت توحي بتراخ أميركي – أوروبي، في مواجهة موسكو، بدا واضحاً أن ما قبل 24 فبراير/ شباط، تاريخ بدء الاجتياح، ليس كما بعده. تضع واشنطن، ومن خلفها العواصم الأوروبية، ثقلها في التصدّي لموسكو. حصار اقتصادي غير مسبوق، بما في ذلك استخدام "السلاح النووي"، أي العزل الجزئي لمصارف روسية من نظام سويفت، ضغط سياسي مكثف في الأمم المتحدة، استطاعت من خلاله أميركا تمرير قرار إدانة "العدوان الروسي" (كما جاء حرفياً)، ومطالبتها بالانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية، حتى أنها لم تترك خياراً للدول التي تدور في فلكها، لو جزئياً، بأخذ موقف حيادي على قاعدة إما مع روسيا أو ضدها. وفوق ذلك كله، قرارات متتالية بدعم عسكري واسع لأوكرانيا وصولاً إلى حد تزويدها بمضادّات الطائرات والدبابات. وتبدو كل هذه الإجراءات في عالم السياسة منطقية، بعدما ذهب فلاديمير بوتين بعيداً في محاولة إرساء طموحاته التوسعية، غير آبه بكل الوساطات والتحذيرات، متخذاً من تعثر المفاوضات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية بشأن الضمانات الأمنية التي تريدها روسيا ذريعةً لاجتياحه أوكرانيا ومحاولة إخضاعها.

ومع دخول الغزو الروسي أسبوعه الثاني، تبدو كل السيناريوهات واردة في الميدان، خصوصاً بعدما سقطت التوقعات بتمكّن القوات الغازية من دخول كييف سريعاً واستسلامها مع باقي المدن، حتى أن الحديث يدور عن حرب شوارع وعصابات ستمتد طويلاً، لتستنزف روسياً مادياً وبشرياً، وإنْ تبدُ التكلفة البشرية الأقل أهمية بالنسبة لموسكو.

وإذا كانت العقوبات والضغوط على أركان النظام مفهومة، بعد كل ما قام به بوتين على مدى عقود من دون محاسبة تذكر، إلا أن ما يصعب التعامل معه في هذا المشهد الحملات التي تشن على كل روسي، في الرياضة، والموسيقى والمؤسسات التعليمية وحتى الصحافيين الذين يعملون في مؤسسات إعلامية روسية ومنهم كثر من أصحاب الأدوار الثانوية، وممن لا يجاهرون بأي مواقف رغم وظائفهم. لعل الأكثر إثارة للسخرية ما عمدت إليه جامعة بيكوكا في ميلانو الإيطالية بعدما اتخذت قراراً بإرجاء دورة دراسية تختص بأدب فيودور دوستويفسكي لأنه "روسي"، قبل أن تتراجع عن الخطوة عقب بروز موجة استنكار وسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي. ووصل الأمر إلى أن منظّمي مسابقة "شجرة العام" في أوروبا أخذوا قراراً باستبعاد روسيا من المنافسة. كما فُصل قائد أوركسترا ميونخ الفيلهارمونية في ألمانيا، فاليري غيرغييف، بعد أن منح فرصة حتى يوم الاثنين الماضي، كي "ينأى بنفسه بصورة واضحة وقاطعة" عن الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن الرجل المعروف بقربه من بوتين، وهو القائل إنه يلتقيه بين خمس وست مرات في السنة، اختار عدم القيام بخطوةٍ كهذه. أما السوبرانو الروسية آنا نتريبكو التي جاهرت بأنها ضد الحرب مع أوكرانيا، من دون أن تنتقد بوتين، فلم يشفع لها ذلك، وألغت حفلات عدّة لها بعد استعادة صور لها منذ سنوات في إقليم دونباس، حيث يسيطر الانفصاليون المدعومون من روسيا.

يبدو هذا المشهد سوريالياً، وهو بطبيعة الحال موضع انقسام بين من يراه أقلّ الممكن ومن يراه مجحفاً، خصوصاً بحق من يعيش في روسيا أو يحتاج زيارتها ومعرّض للتنكيل والسجن في حال أبدى آراء علنية ضد الحرب والنخبة الحاكمة لروسيا. يمكن الحديث عن مكارثية جديدة. والحديث اليوم ليس عن الشيوعيين والشيوعية في الولايات المتحدة، بل عن الروس والنظام الروسي. وهناك خط فاصل وفارق شاسع بين استهداف النخبة الحاكمة (والأوليغارشية الروسية) واستهداف الروس، لأنهم يحملون جنسية هذا البلد. ولذلك، بتماديهما في حملة الشيطنة هذه، تخاطر أميركا والدول الأوروبية بتحويلها إلى ترهيب متعدّد الأوجه يستهدف مواطنين روسا لا ذنب لهم.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.