"شيخوخة بغداد" وكاتبها

05 فبراير 2019
+ الخط -
لافتٌ في سيرة علاء مشذوب، الكاتب العراقي الذي اغتالته ثلاث عشرة رصاصة في كربلاء، السبت الماضي، أنه صار روائيا في السنوات الأربع الماضية، لمّا نشر في أثنائها ثماني روايات، فيما التاسعة "شارع أسود" لن يشهد حفل توقيعها بعد أسابيع، تُضاف إلى واحد وعشرين كتابا له، عددٌ منها في الصورة والسينما والدراما، وفي التاريخ الاجتماعي لمدينته كربلاء. ولافتٌ أيضا أن هذا الكاتب المجتهد، حامل الدكتوراه، غادر كتابة القصة القصيرة (له ثلاث مجموعات) إلى كتابة الرواية بغزارةٍ ملحوظةٍ، قناعةً منه، على الأرجح، بأنها الجنسُ الأدبي الذي يستطيع أن يرمي فيه الكثير مما في جوانحه ومداركه وأخيلته، عن العراق وراهنه وتاريخه، وعن كربلاء وتفاصيلها. وإذ يتوفّر نتاجُه الروائي والقصصي على ما يؤشّر، حقا، إلى خبرةٍ ظاهرةٍ لديه في السرد ومكابدته، وفي الحكي، وبمستوىً فني متقدّم، وعالي القيمة في بعض أعماله، فلافتٌ ثالثا أن اسمه يكاد يكون معلوما بين الكتاب العراقيين فحسب، سيما في بلدهم، فكثيرون من المهتمين بالرواية العربية وجديدِها، وكذا أهل الصحافة الثقافية العربية، لم يكن اسم علاء مشذوب قد وصل إلى أسماعهم، قبل الشهرة المدوّية التي صار يحوزُها بعد جريمة الرصاصات الثلاث عشرة، والتي دفعتنا إلى التفتيش عن نصوص هذا الكاتب، وعن صورِه، و"بوستاته"، (له رواية "جريمة في الفيس بوك") فنَعْرِف أنه كاتبٌ جريءٌ حقا في مجتمعه، أي في العراق المثقل بالطائفية والفساد والبؤس والإرهاب، وأنه صاحبُ صوتٍ معلومٍ في نقد المجاميع الطائفية الأثواب، والنافذة في العراق المعطوب، وأنه شارك في مظاهراتٍ ساخطةٍ على الفساد وسوء التسيير الحكومي والبطالة، وأنه يتنقل في كربلاء التي يقيم في حارةٍ عتيقةٍ فيها بدرّاجة هوائية. 
ومن مفارقاتٍ أمكن التقاطُها في أثناء "التعرّف" على علاء مشذوب (50 عاما) أنه من أهم كتّاب جيله عن الخوف في العراق الماثل قدّامنا، أقلّه في روايته "شيخوخة بغداد" (فضاءات، عمّان، 2017)، إلا أنه، كما دلّت جريمة قتله السافلة، كان مطمئنا، غير حذر، ليس قلِقا من إرهابٍ وإرهابيين، من قتلٍ وقاتلين، فيما لسانُه طويل، وقلمُه شجاع، في تعيين الخراب المهول في العراق، وفي العراقيين أيضا، والذي أحدثه الاحتلال الأميركي، معطوفا على العناوين الطائفية وبيارقها وناسها. وقلّة الحذر هذه هي التي جعلته، على الأرجح، لا يتحرّز في إشارته، المُغامِرة وغير المحسوبة، إلى الخميني يُحارب العراق، وفي أقوالٍ أطلقها عن المذهبيين في البلاد. ولا أعرف إن كان في قصص علاء مشذوب ورواياته، غير "شيخوخة بغداد" التي طالَعها صاحبُ هذه الكلمات أخيرا، مثلُ المقادير الوفيرة فيها عن الطائفية والسّراق ومراكز القوى في "العراق الجديد". وفي هذه الرواية فصلٌ سمّاه الكاتب "سلام يتذكّر ساعات المحنة الأولى"، وسلام هو بطل الرواية (اسمه غير المُختصر عبد السلام)، والمحنة هي الاحتلال الأميركي لبغداد، لمّا عبرت إليها الدبابات إياها، وجالت في المدينة.
تنشغل الرواية ببطلها وارتحالاتِه، وتنهض على سيرته وأوضاع عائلته وأسرته، لتنطق بما تريد أن تُرسله بشأن بغداد المدمّاة والمختنقة. والمرجّح أن الكاتب المغدور أراد أن يقول، في روايته الثامنة هذه، ما في جوفِه عن العراق المريض الذي يُناهضه، وإنْ من دون كثير اكتراثٍ بمقتضياتٍ فنيّة، كانت ستتطلب تخفّفا من استرسالٍ في هذا كله. ومن المفارقة أن كاتبا على درايةٍ بكل هذا العطن في بلده، ثم لا يُغادره، كما فعلت نخبةٌ عراقيةٌ عريضةٌ، فيما بطل هذه الرواية يُحدّث زوجته، في مطار بغداد مغادرا، إنه يريد الهجرة إلى غير رجعةٍ، ويقول "كلما دخلتُ بغداد أشعر أن إرهابيا مفخّخا سوف يفجّر نفسه، أو أن سيارةً تتربّص بي حينما أصل إلى الشارع العام". بل تُنبئك الرواية، في مفتتح صفحتها الأولى، بأن "العراق أضحى مثل سجنٍ كبيرٍ تحيطه الأسلاك الشائكة من كل مكان". ويقول السارد، في هذه الصفحة، في هذه الرواية التي تُختتم بمشهدٍ في مقبرةٍ في السويد، إن "سوء الطالع" يلاحق كثيرين من شباب العراق.. ولكن، لم تكن الرصاصاتُ الثلاث عشرة التي قتلت علاء مشذوب سوءَ طالع، كانت سوءا آخر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.