شهادات التحرّش وأزمة "النطاعة"
يقول الحديث الشريف إن خيار الناس في الجاهلية هو خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. ويقول المصريون: "ع الأصل دوّر". أشعلت موجة جديدة من شهادات وقائع التحرّش في مصر جدلاً بشأن قيم الرجعية والتقدّمية، حيث تكرّر في خطاب الجناة، وهم شخصياتٌ فنية وسياسية، للناجيات، معايرتهن بأنهن لسن تقدّميات بما يكفي.
الواقع أن جوهر القصة بعيد تماما عن هذا النقاش، فما ورد في الشهادات كان سيودي بأصحابها إلى السجون في بلاد الغرب، معاقل "التقدّمية" التي يتسترون بها. على سبيل المثال، تكرّرت في الشهادات المنشورة، أو المتداولة سرّا، وقائع استدراج الضحية بالكذب. تعالي إلى منزلي لعمل "كاستنغ" للفيلم، أو لأعرض عليكِ فرصة عمل. تعالي وستوجد زوجتي أو أصدقاء آخرون .. إلخ.
لا يوجد في السياق الغربي فكرة أن العرض الجنسي الرضائي يمكن تقديمه عبر الاستدراج بالخداع والكذب للانفراد بالضحية، ووضعها أمام الأمر الواقع، بل ثمّة "بروتوكول" متعارف عليه حول دعوة المنزل، ذات المغزى التي تأتي بعد مقدمات منطقية.
مثال آخر، إرسال الجاني محتوىً جنسياً مفاجئاً تحت حجج مختلفة. وبعضهم بلغت به الوقاحة السخرية من الفتيات المصدومات إنهن لسن منفتحات. والحقيقة أن هذه الممارسة تندرج في التعريف المباشر للتحرّش بمعناه القانوني البحت.
مثال ثالث متكرّر هو إهمال فارق موازين القوى بين الطرفين، وهي نقطةٌ حاسمةٌ في السياق الغربي وقوانينها وقواعدها معروفة. من الممنوع تماما أن يدخل أستاذ وطالبته في علاقة، أو مدير وموظفته. ولا يتم الاحتكام هنا إلى ما يقوله الطرف الأضعف (ذكرا أو أنثى)، فقد انتفت الرضائية فور انتفاء تساوي مراكز القوى. وبالطبع، لا تشمل الرضائية الضغط المعنوي على الضحية بمعايرتها بأنها ليست تقدّمية. وللمفارقة هنا يستبطن "التقدّمي" الزائف مفهوم "الرجعيين" الأسطوري عن الغرب إنها بلاد الانحلال الجنسي المطلق والعشوائي، حيث لا يقول أحد "لا" أبدا لدعوةٍ جنسيةٍ من أي طرفٍ وفي أي وقتٍ وتحت أي ظرف!
إذن، لا نتحدّث عن حربٍ بين منظومتين أخلاقيتين. في بلادنا منظومة أخلاقية شرقية لها مزاياها وعيوبها، وفي مقابلها ثمّة منظومةٌ أخلاقيةٌ غربيةٌ طوّرت أسئلتها وحلولها، وتحمل بدورها مميزات وعيوبا مختلفة، لكن كلتا المنظومتين تظل "أخلاقية"، بمعنى الاحتكام لمعيار متجاوز، قد يكون "الشريعة" أو "العادات" في بلادنا، وقد يكون "الرضائية" في بلادهم. يمكن للمرء استبدال مرجعية منظومةٍ أخلاقيةٍ بأخرى، أما أن يكون المرجع الوحيد هو رغبات الطرف الأقوى، فهو أبعد ما يكون عن الأخلاق في أي منظومة. ويمكن القول بثقة إن الشخص الأخلاقي يبقى كذلك، أيا كان انتماؤه السياسي والفكري، بينما غير الأخلاقي سيستخدم شتى أساليب "النطاعة"، بالتعبير المصري، للالتفاف حول حقيقته.
يتخوّف بعضهم من أن شهادات التحرّش أسقطت محسوبين على معسكر القوى الديمقراطية، ولكنهم يغفلون عن أن هذا المعسكر إن لم يكن أخلاقيا فلا يميّزه عن خصومه شيء. وفخرٌ له أن يكون، في مجمله، بعيدا عن التستر فور انكشاف الشهادات، والتي دائماً ما يليها ظهور أدلة.
وفضلا عن ذلك، للحراك العالمي ضد التحرّش أبعاده السياسية، ولو بشكل غير مباشر. اليمين العالمي يجمع حزمة واحدة من انحيازات سياسية واجتماعية معروفة، تتضمّن معاداة حراكات الحقوق كلها، مثل "أنا أيضا" النسوية، و"حياة السود مهمة". مؤيدو ترامب هم الأكثر تشكيكا في لقاحات كورونا، وأنصار نظرية "الأرض مسطّحة" ليسوا من الديمقراطيين. هذه منظومة فكرية واحدة، وإذا تعسّر علينا تعزيز أحد جوانبها فعلينا السعي إلى تعزيز آخر.
وتزيد تلك الصورة رسوخا في الحالة المصرية، حيث يشمل الحراك ناشطاتٍ مجهولاتٍ، يحافظن على أمنهن الرقمي والمادي على طريقة السياسيين، ويشمل حراكا قانونيا، وشمل بعدة محطات صداما، أو ضغطا على مؤسسات في الدولة بلغ ذروته في "قضية الفيرمونت". ولافتٌ أن السلطات المصرية فهمت، منذ وقت مبكر، ارتباط الملفات. لذلك تم استهداف مركز نظرة للدراسات النسوية ومؤسسة قضايا المرأة، وعلى رأسهما مزن حسن وعزة سليمان، وكلتاهما ممنوعتان من السفر ومجمّدتا الأموال، وهما من النسويات البارزات في الحراك الأخير. صوتُها ثورة ليس مجرّد شعار.