شجون المكان الرحباني

01 أكتوبر 2017

فيروز بين عاصي ومنصور الرحباني

+ الخط -
الحديث عن المكان في الأغنية الرحبانية  ذو شؤون، وشجون، وفنون. يستحيل أن تمرّ أغنية أبدعها الرحبانيَّان لا يُصَوَّرُ فيها المكانُ على نحوٍ يأخذ بالألباب، فكأن الأغاني التي يبدعانها لا تُسَجَّلُ عبر الميكروفون داخل استوديوهات الإذاعة المغلقة، وإنما بالكاميرا السينمائية التي تتجوّل في الهواء الطلق، بإدارة مخرج عبقري.
يقول عاصي الرحباني، في حوار أجرته معه مجلة "أهل الفن" في يوليو/ تموز 1955: "مررنا، في طفولتنا، بألوان كثيرة من الحياة، وعشنا في أماكن كثيرة. جمعنا الحطب من مروج الصنوبر في بلدتنا، وحملنا سلالَ الكروم إلى المعاصر، وأنت ترى هذا الأثرَ في أغانينا".
واقعياً: يعيش الرحبانيان وفيروزُهما في بيروت التي يعشقانها. ولكن؛ مَنْ يصدق أنهما يعيشان في بيروت أو في أية مدينة كبيرة؟ أبداً. فالضيعةُ تمهرُ معظمَ أعمالهما بخاتمها، ففيروز تغني مع المجموعة: كيف حال الضيعة؟ وكيف أهل الضيعة؟ وكيف الأسمر يللي كانْ، يسمّعنا قِصْدَانْ؟ كيف حال النبعة؟ وكيف حال المرعى، انشالله بالخضرا مليان، وحاني عالقطعان.
وتغني أيضاً: يا أهل الضيعة. الله من عنده يعافيكن. وفي أغنية "موعود" برفقة الموسيقار زياد تغني: موعود بعيونك أنا موعود، وشو قطعتْ كرمالُن ضِيَعْ وجرود.
ما الذي يصفه الرحبانيان في الضيعة؟ الجواب: كل شيء، من دون استثناء، وبالألوان التي تخطر ببالهما في لحظة إبداع القصيدة. الأسطحة تكون أحياناً حمراء، والطرقات خضراء، وثمّة زخارف صغيرة مصنوعة من الزهور والعصافير: حمرا سطيحاتك حمرا كلا رفوف عصافير، خضرا طرقاتك خضرا، رح بتلفك وتطير. وشبابيكك يا ضيعة، مضوية ليل نهار، كل شباك وفي حلوة، ووردة مليانة زْرار.
هل وصلنا إلى وصف مدخل البيت؟ أجل: دَرَج الوَرْدْ مدخل بيتنا، دَرَج الورد جنة حمانا، وبين الورد صاير بيتنا، وتحت الورد خيمة هوانا. في أغنية أخرى يُطلق الرحبانيان على ضيعتهما صفاتٍ سريعةً متواترة: سلال الزراعين، تلال الوعر، علالي الشيح، ضيعتنا.. غناني الحطابين، صخور السمر، حراش الريح، ضيعتنا، يا مطارح شربين، بيادر حصادين، شبابيك الحلوين، ضيعتنا.
تنتاب المغنية، ربما في أثناء إقامتها في بيروت، حالةٌ من الاشتياق للضيعة، فتشدو: خدني على تلاتها الحلوين، خدني على الأرض اللي ربتنا، انْسَاني على حفافِ العنب والتين، اشْلَحْني على ترابات ضيعتنا. وتسترسل في رواية صور الذكريات فتغني: بواب العتيقة عم تلوّحْ لي، وصوت النهورة ينده الغياب، وعيون عَ شبابيك تشرح لي، صحاب عم بتقول نحنا صحاب..
ثمّة أسرار رحبانية أخرى تظهر من خلال وصف الأماكن، منها استخدامهم "الحَمَام" لتسييج البلد، كما في "سهرة حب": تبقى بلدنا بالحَمَام مْسَيَّجة. ومنها نَحْتُ مصطلح "النهورة" لجمع "النهر"، وهو استخدام غير مسبوق في تاريخ الغناء، إلا عند الرحابنة أنفسهم، حيثُ الرجال في مسرحية ناطورة المفاتيح (1972) يغنون لـ بربر: منقطع النهورة، بالطرقات المهجورة، منلبس الليل، ولون الأرض، وسفر الغيم، حتى نوصل.
لنحكِ، كذلك، عن اهتمام الفريق الرحباني بالباب، كما في قراديّة "باب البوابة ببابين" الداخلة في نسيج سكتش المصالحة. إضافة إلى "أبواب" جوزيف حرب الذي شرح، ذاتَ مرة، لنا سبب الوقوف عند الباب: عَلى باب منوقف، تـَ نودع الأحباب. ورأى، في الأغنية ذاتها، أن الـ "بواب" أنواع: شي غُرْب، شي صْحَاب، شي ناطر تَـ يرجعوا الأحباب.. وهناك باب غَرْقَان بريحة الياسمين، وباب مشتاق، وباب حزين. ولجوزيف حرب، على ما يبدو، ولعٌ خاص بالأبواب: لَمَّا عالباب يا حبيبي منتودع، بيكون الضو بعدو شي عم يطلع.
أخيراً: لم يترك الرحبانيان مكاناً في الجغرافيا اللبنانية إلا وغنيا له: يا رايح ع كفرحالا، ونَطَّرونا كتير على موقف دارينا، ودراج بعلبك، وقمر مشغرة، وبدر وادي التيم، وتراب الجنوب، وتراب عينطورة (مَلْفى الغيم)، وصخرة جبل عامل، وسطح البلدية، وجارة الوادي، و(يعلى، يعمر، عزك يا ضيعة يتعمر، تَلَّاتك لوز وتفاح، ودروبك هالمرج الأخضر).
دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...