شبح الحرب العرقيّة في السودان

04 نوفمبر 2023
+ الخط -

"أسوأ ما في الحرب تناسل الأحداث الغرائبية، وتحوّل القصص المأساوية إلى حدث عادي"... رواية "الموت عمل شاقّ"، خالد خليفة.

***

ربما تعرفه من مسجد الحي. يصلّي المغرب جوارك. ويأمركما الإمام بسدّ الفرج وتسوية الصفوف، حتى لا يدخل الشيطان بينكما. وحين تفرغان، تتصافحان، وتقولان "تقبّل الله". أو لعلك تدخل منزلك، فتجد ابنه يلعب مع ابنك، فهما زميلان في المدرسة. يناديك ابنُه "عمّي". ويناديه ابنُك "عمّي". ثم فجأة تصخُب المدينة، وتشتعل الفتنة، فإذا به يدخُل عليك بيتك. غاضباً لأمر لا تعلمه، وربما لا يعلمه هو. يحمل سلاحاً. جاء ليقتلك، ويقتل عائلتك. في لحظاتك الأخيرة، ستتذكّر ما قاله لك في المسجد قبل ساعات. "تقبّل الله"، ولن تفهم لماذا أصبح يكرهك إلى هذه الدرجة... هكذا تكون الحروب العرقية.

***

"في الأشهر الأخيرة، لم يعد أحد يسأل عن سبب الموت وتفاصيله، يعرفونها جيداًّ، الموتُ تحت القصف، تحت التعذيب في المعتقلات، قتل بعد الخطف لطلب فدية، رصاص قنّاص، معركة. أمّا الموت كمداً، أو بسبب خيانة الجسد لصاحبه، فهي ميتات نادرة هذه الأيّام". رواية "الموت عمل شاقّ"، خالد خليفة.

***

حيثُ يطالب شخص بقتلك لأنك تنتمي، في جدّك البعيد، البعيد جدّاً، إلى شخصٍ غير جدّه البعيد. ربما كان الجدّان أخوين، أو من نسلٍ واحد. مثل كثير من قصص الأنساب السودانية. وهذا الجدّ لم تره، ولا تعرف عنه شيئاً إلا حكايات الانتساب إليه، فهو قد عاش ومات في القرن الخامس عشر، أو ما قبله. ولكن إليه تُنسب القبيلة. ولأجل هذا النسب، تستحقّ الموت في نظر جارك.

يبدو الأمر عبثياً وسخيفاً جداً، لكن البشر لا يكفّون عن تكراره.

في رواندا، إبّان الحرب الأهلية، اقتحم القتلة منازل جيرانهم. اغتصبوا النساء وقتلوا الرجال. تحكي شهاداتٌ موثّقة عن أسر ظنّت أن الجيرة يمكن أن تحميهم، ففروا من منازلهم إلى منازل الجيران الذين يعرفونهم عمرهم كله. وكان الجيران سعداء باستضافتهم، وسعداء بتسليمهم بعد ذلك إلى المليشيات لتقتلهم. وفي الصومال، حدث مثل ذلك. تقول واحدةٌ من الشهادات إن جيرانا يسكنون البيت نفسه، ويجمع بينهم فناء واحد، قتلوا بعضهم في الفناء الذي كان أطفالهم يلعبون فيه مساء.

ليس لقاتلك مشكلة شخصية معك، لكنه لسببٍ ما قرّر أن انتسابك لجدٍّ مغاير مبررٌ كافٍ لقتلك. هكذا مات ملايين البشر. وهكذا مات مئات الآلاف من السودانيين. على أيدي جيرانهم اللطفاء، في لحظة حماس قبلي.

***

"في الحرب تكفيك أشياء صغيرة للأمل، تعاطف عسكري على حاجز، حاجز غير مزدحم، سقوط قذيفة بعد مئات الأمتار عنك على سيارة كانت تزاحمك على أخذ دورك. حياة جديدة منحتك إياها المصادفة، لو لم تزاحمك هذه السيارة لسقطت القذيفة عليك. هكذا يفكر البشر الذين يعيشون تحت سقف الأمنيات الواطئ في الحرب". رواية "الموت عمل شاقّ"، خالد خليفة.

***

تكرّر هذا السيناريو القبيح في السودان عدّة مرات. أشهرها الإبادة الجماعية والتهجير القسري في إقليم دارفور، ووضع الإقليم على فوّهة بركان ينتظر الانفصال في أي لحظة. كما تكرّر بدرجات أقلّ في شرق السودان، وفي إقليم النيل الأزرق. يمكننا، من دون كثير خوف، أن نصف الاقتتال العرقي بأنه طقسٌ محليٌّ محبّب. يحدُث كل فترة وأخرى.

اليوم، ومع مرور أكثر من ستة أشهر على حرب الخرطوم، تبدو الحرب العرقية أقرب ما تكون. حرب شاملة، وليست مجرّد اشتباكات قبلية محدودة. حرب مفتوحة، تُخاض باسم الآباء والأجداد، ويقتل الجار فيها جاره. ويبدو سعي الحركة الإسلامية السودانية إلى الوصول بالحرب الى هذه النقطة محموماً واضحاً للجميع. كأنما ذلك عقاب مناسب للشعب الذي انتفض ضد حكمها. للأسف، لا تبدو هذه الحرب بعيدة اليوم، بل يمكن القول إنها بدأت. ولهيبها أمسك بأطراف البلاد الذاهبة إلى الهاوية.