شباب فلسطين ... ملتقى فلسطين
من شديد الوجوب أن تُحمى من النسيان أسماء أبطال عمليات المقاومة الفردية النوعية في فلسطين، برصاص الكمائن، وبالطعن والدهس، وبالسكاكين، وبأساليب إبداعيةٍ أخرى في بطولة المثال الفلسطيني العالي، خيري علقم وعدي التميمي وضياء حمارشة ومهنّد الحلبي ونشأت ملحم وإبراهيم النابلسي وخليل أبو علبة وأحمد أبو جرار وعامر أبو سرحان ومحمد أبو القيعان، وغيرهم من أقمارٍ في سماء فلسطين في نحو عقدٍ مضى. كان هؤلاء الشهداء يؤكّدون المؤكّد، أن إسرائيل لن تستطيع، أبدا، أن تُحرز أمن رعاياها، مواطنيها، يهودِها. وأنها فاشلةٌ في أن يشعُر الواحدُ من هؤلاء بأنّه آمن، وعاجزةٌ عن أن تحميه من خوفٍ يلازمه، فيما تمكّنت هي أن تصون أمنها، دولةً قويةً، دولةً تصنّع تقنياتٍ عسكريةً متقدّمةً وتصدّرها إلى الصين والهند، دولةً هزمت العرب في غير حربٍ، دولةً يتودّد لها بعضُ العرب بتحالفٍ مشينٍ وتطبيعٍ مخزٍ، دولةً تحوز واحدا من أقوى الجيوش. ولكن هذا كله لا يساعدها في حماية المستوطن المرتعش، في ضواحي القدس وغيرها، من رصاص شابٍّ فلسطينيّ، يأخذ اسم خيري علقم (21 عاماً)، أو اسماً آخر، يفاجئُه قرب بركة السباحة في منزله المسيّج، أو في المقهى، أو في سيارته. وهذا رئيس حكومة هذه الدولة شبه النووية، نتنياهو، يعدُ بتسليحٍ أكثر للمستوطنين، وفي وهمه أنّ أمراً كهذا سيُسعف هؤلاء في إنقاذهم من الخوف المتوطّن فيهم من شجاعة شبابٍ فلسطينيين لم يسمعوا بمزحة الجنرال الأميركي، كيت دايتون، عن "صناعة الفلسطيني الجديد"، لمّا كان يركّب على هواه أجهزة أمن للسلطة الفلسطينية.
العملية الفريدة الأولى في عهد الحكومة الفاشية الراهنة، والتي ضرب فيها خيري علقم، مساء يوم الجمعة، خرافات زُعرانها عن أنفسهم، موصولةٌ بما يتتابع من عملياتٍ فرديةٍ جسورة، منذ العام 2014، وإنْ سبقتها مثيلاتٌ لها بعد شيءٍ من الانقطاع. موصولةٌ، بداهةً، بأنماطٍ من المواجهات والبطولات التي زادت وتيرتُها باطراد، بتنويعاتٍ مختلفةٍ في أداء الشباب الفلسطيني المقاوم، قبل هبّة السكاكين في 2015 وبعدها، وجاء لافتاً ومهماً أنّها بمشاركة شبّانٍ من الأراضي المحتلة في 1948 (مثلا، نشأت ملحم في عملية قتل أربعة إسرائيليين في حانة في تل أبيب في 2016). والبادي في الاطراد المتزايد لأنشطة المقاومة وعملياتها، من رمي الحجارة إلى قتل الجنود، أن مجازر المحتلين وجرائمهم، وجديدُها أخيرا في جنين (تسعة شهداء) ليس لها أن تمرّ من دون ردّ فعلٍ شجاع، لا يحسُن أن نسمّيه انتقاما وحسب، وإنما أيضا تأكيدا على أن في وسع شابّ فلسطيني أن يُنجز الردّ عمليا، وبالتخفّف من الفصائلية والترتيبات التنظيمية، على ما تفيد به ظاهرة عرين الأسود وكتائب جنين مثلا. وهذا عام 2022 شهد زيادةً في العمليات والأنشطة، ولقي 29 جنديا ومستوطنا مصرَعهم، وأصيب 128، فيما 2023 لن يكون عام هناءة بال بن غفير وأقرانه، على ما يُخبر به خيري علقم الذي لم تأت الأخبار على انتسابه إلى أي تنظيم فلسطيني.
ذلكم هو الإيقاع الكفاحي الفلسطيني في لحظة الموات السياسي الفلسطيني الرسمي المنظور، والركاكة العربية المعلومة. وفي الأثناء، تُبادر مؤسّستان أكاديميتان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسّسة الدراسات الفلسطينية، إلى تنظيم الملتقى السنوي الأول لفلسطين، في الدوحة، ليكون مساهمةً في إنتاج معرفةٍ علميةٍ بالحال الفلسطيني العام، بمختلف صُعُده ومستوياته، بأدوات تحليلٍ ونقاشٍ (وجدال؟) تتوسّل فحصا معمّقا بهذا الحال، ينهض على جهود مثقفين وباحثين وجامعيين، معنيين بفلسطين، اجتماعا وناسا وحالةً كفاحيةً وتاريخا وفضاءً ثقافيا، وقضيةً مركّبةً متنوّعة الأبعاد. تساهم في هذا كله وغيره، بمشاركة بعض الباحثين العرب والأجانب، أكثر من 60 دراسة وورقة وبحث ومساهمة في جلساتٍ حواريةٍ وأوراشٍ وندواتٍ متتابعة، نسمع في واحدةٍ منها إن وعيا يتزايد في الأكاديميا الغربية بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرّرٍ من احتلال واستعمار استيطاني عنصري. ونسمع في أخرى أن تناقصا يحدُث في حضور فلسطين في مناهج التدريس العربية. ويُخبرنا باحثون مجدّون، معرفيون وحسب، في ثالثةٍ أن المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس لن تتحقّق، ولا مؤشّرات منظورة تؤدّي إليها ... إذاً، ثمّة وعيٌ فلسطينيُّ آخر، يشعّ من أقمارٍ تبهرنا هناك، دلّ عليه ما صنعه خيري علقم في مستوطنة مسلحّين إسرائيليين، عشية الملتقى السنوي الأول لفلسطين، في مصادفةٍ طيبةٍ لا ريب.