شاي علي جمعة "بدون نشارة"
ثمّة نصوص أدبية أو سينمائية مشعّة، إلى درجة أنك تجدها في كل تفصيلة في الحياة. لا يمكن أن يكون ذلك إبداعا فحسب، شيء آخر، لعلّه في طبيعة الفن نفسه، يختفي خلف هذه القدرة. أحد أبرز هذه النصوص فيلم "الكيف" (إخراج علي عبد الخالق، 1985) الذي يناقش تأثير المخدّرات على المجتمع. وإذا تأملتَ نصوص الحوارات المتقنة بين رجل العلم صلاح أبو العزم (يحيى الفخراني)، وتاجر المخدّرات البهظ بيه (جميل راتب) وجدتَها تتجاوز مخدّرات الجسد إلى كل مخدّر نفسي أو فكري، سياسي أو ديني أو اجتماعي. منطق "البهظ"، وإحالاته السائلة إلى المؤامرة الخارجية، وعظمة قدماء المصريين، بناة الأهرام، من دون غيرِهم، وما يتمتّعون به من"خصوصيةٍ" تحميهم من خطر البحوث العلمية الغربية، ومن قدراتٍ بيولوجيةٍ خارقة تجعلهم يهضمون "الزلط"، ومن ثم المخدّرات، وغيرها من السموم. كم مرّة رأيت هذه التبريرات، وفي كم ألف سياقٍ لتبرير تعاطي "المخدّرات" أو الاتّجار بها؟
تسأل طفلةٌ مفتي مصر الأسبق الشيخ علي جمعة: لماذا يدخل المسلمون وحدَهم الجنّة؟ فيجيبها ببساطة إن هذا غير صحيح، وإن القرآن الكريم يقرّ بأحقية من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا في الرحمة. ثم تتوالى الأسئلة عن العلاقات بين الجنسين، في أطر الحبّ والصداقة والزمالة، ويجيب جمعة إجاباتٍ تمثل خلاصاتٍ واضحة ومختصرة.
ثارت الدنيا على الشيخ، وهاجمه كثيرون، بينهم طلابٌ له، رغم أنه، إذا تجاوزنا صياغاته التبسيطية للأطفال، لم يقل كلمة واحدة جديدة، ولكلامه كله سوابق في تفسيرات النصوص، وآراء علماء العقيدة والكلام، وتواريخ سير النبي وأصحابه، والخلاف بشأن خلاصاته وارد، ولكن من دون توتّر أو قلق أو صراخ، لا مكان له إذا كان الصارخون على درجةٍ، ولو قليلة، من الاطلاع.
هنا يقفز "البهظ بيه"، مرّة أخرى، من عمامة الشيخ ليتحدّث عن تجربته مع بيع الشاي المغشوش، وتعالي أحكي لك المشهد كما كتبه محمود أبو زيد:
البهظ بيه: "زمان كنت بأغشّ الشاي بنشارة خشب وأبيعه في بواكي، شكلها حلو ومكتوب عليها "شاي أبو الأصول"، كسبت، والماركة بقى لها إسم، وسمّعت، فجأة النشارة غليت والنجارين اتملعنوا، عبّينا الشاي من غير نشارة، تعرف حصل إيه؟ أتخرب بيتي وفلست. الزباين طفشت وقالوا عليّ بأغش الشاي".
هذا ما حدث مع الشيخ علي جمعة في الأيام القليلة الماضية، وبعد تصريحه إن الجنة ليست للمسلمين وحدهم، وإن العلاقات بين الجنسين في إطار العفاف ليست حراما، وإن الحياة كلها قائمة على الاختلاط بين الجنسين. امتنع الشيخ، الذي سبق له الاتّجار بـ "مخدّرات التريند"، عن خلط نشارة الدجل بخطابات التديّن، وباع بضاعته، ربما أول مرة منذ زمن طويل، كما هي، من دون غشّ، فطفش الزبائن، واتهموه بأنه يغشّ "الخطاب الديني"، وذهبوا في تحليل أسباب هذا الغشّ المتوهم مذاهب وصلت إلى حدود المؤامرات الغربية، والبعثات التبشيرية، إلى آخر موّال الصبر الذي لا آخر له.
كان محمود أبو زيد في "الكيف" يقارب مجتمع مصر ما بعد الانفتاح و"كامب ديفيد"، مصر الثمانينيات، حيث لا معيار لشيء، طالما أنه يفرقع، "ويجيب فلوس"، ومن دون حاجةٍ لمدّة الخط على استقامته، فهو ممدود، صارت الفلوس، فلوسا ولايكات، وفلوساً ومتابعين، وفلوسا وألتراس، وفلوساً وسلطة تأثير، من دون معيار معرفي أو أخلاقي، واحد، يسمح بتجاوز منطق تاجر المخدّرات إلى رجل العلم.
تبدو الصورة أكثر قتامةً حين نتجاوز تعليقات المتابعين أو طلاب المعارف الشرعية، إلى تعليقات "المختصّين"، إذ يحاول بعضُهم شرعنة تجارة المخدّرات باستخدام أدوات "رجل العلم". وأبرز ما يستحقّ التوثيق هنا هو نقاشٌ دار على صفحة أحد مشايخ الأزهر، الذي حذّر من خطورة منهج التصالح مع الواقع بديلاً عن عُزلة السلفيين والتكفيريين عنه، وأشار إلى حاجة "المختصّ" أحيانا إلى الإفتاء بالتحريم في غير موضعه حفاظاً على "الهوية". أو كما قال "المزاجنجي": "الشكرمون طاخ في الترلولي".