شاعر القرار 194
من أين تأتّى للشاعر الفلسطيني، هارون هاشم رشيد، كل ذلك الفائض من الثقة، وتلك المقادير الباهظة بالزهو بالنفس، وهذا الامتلاء بالذات، وهو يكتب، في مطالع خمسينيات القرن الماضي، في قصيدةٍ سمّاها "أنشودة العودة": .../ أخي والخيمة السوداء قد أمست لنا قبرا/ غداً سنحيلها روضاً ونبني فوقها قصرا.. ستعلو صيحة الأحرار يوم نعاود الثأرا/ وتمضي جلجلات الرعب إنْ برّاً وإنْ بحرا.. وبلحنٍ متقشّف، يغنّي تلك القصيدة العتيقة، في زمنها، محمد فوزي، من دون أن يُسعفَه صوتُه، الهادئ السمت، في إشاعة "اليقين" الذي أراده هارون هاشم رشيد، ولكن أصوات جوقةٍ، أوحت بقوةٍ مرتجاة، صاحبت صوت فوزي، ساعدته في هذا، سيّما وأن الأغنية تُختتم بأن "فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى". ومعلومٌ أن فلسطين هنا هي الأرض التي احتلت في 1948. حال فايدة كامل أفضل نسبيا مما بدا عليه محمد فوزي، وهي تؤدّي قصيدة "لن ينام الثأر". تآلفت الصيحة التي تنطق بالظفر، وكذا التنغيمة الجيّدة، مع أصوات جوقةٍ قليلة العدد في الدقائق الخمس (إلا قليلا) للأغنية التي تُخبر سامعيها في مطلعها: لن ينام الثأر في قلبي وإن طال مداه/ لا ولن يهدأ في قلبي لظاه.. وختمها هارون هاشم رشيد: لن ينام الثأر في صدري وإن طال مداه/ لن ينام لا لن ينام.
الأغنيتان اثنتان من 90 قصيدة للشاعر الراحل أول من أمس في مغتربه الأخير في كندا، انكتب أن مغنين أدّوها. وفي الأرشيف أن محمد قنديل غنّى "أحبك يا قدس" (بعد عقود، لحنّها الموسيقار القطري عبد العزيز ناصر أغنية جماعية)، وكارم محمود غنّى "فلسطين"، وطلال مدّاح غنّى "جراح القدس"، غير أن الأشهر هي "سنرجع يوما إلى حينا .."، ما قد يعود إلى أداء فيروز لها، بصوتها الأخّاذ، وإلى جودةٍ أفضل كثيرا في كلماتها ومقاطعها، فضلا عن لحنها الرحباني الرهيف. ويمكن أن يُضاف التصوير التلفزيوني لها، بالأبيض والأسود، فيروز شابة بمنديل وزي فلسطينيين. يحضر الشعر في هذه القصيدة بمنسوبٍ أنضج من اللواتي أدّاها قنديل ومحمود وفوزي وفايدة كامل وغيرهم. وقد حافظ هارون هاشم رشيد (أبو أمين ومأمون، كما الخليفة العباسي) هنا، كما في قصائد بلا عدد في مجموعاته العشرين (ومسرحيات وروايات)، على العودة إلى فلسطين حقيقةً مؤكّدة: .../ يعزّ علينا أن تعود/ رفوف الطيور ونحن هنا.. هنالك عند التلال تلالٌ/ تنام وتصحو على عهدنا .. وإذا كان ثمّة من يشكّ في نسبة هذه القصيدة إلى هارون هاشم رشيد، ويؤكّد ما ينكتب في مواقع إلكترونية إنها للأخوين رحباني، فربما يعود هذا إلى "أجواء رحبانية" فيها. أما معمّر القذافي فأمرُه آخر. صرخ، في إطلالته عند باب العزيزية في طرابلس: أنا لن أخاف من العواصف وهي تجتاح المدى.. من دون أن ينسب العبارة إلى صاحبها، هارون هاشم رشيد، في قصيدةٍ قديمةٍ له، لم يتخيّل يوما أن شيئا منها سيُستعمل في مشهدٍ بالغ الكاريكاتورية، قذافيٍّ، ركيك.
وهذا مقطعٌ كاريكاتوري مستجد، متصلٌ بالشاعر الذي مضى إلى ربه عن 93 عاما، في نعي ما يسمّى التيار الإصلاحي الديمقراطي في حركة فتح، نشره رئيس هذا التيار، محمد دحلان. يتعهد فيه الناعون بأن يحفظوا الإرث الأدبي والنضالي للراحل، وأن "يواصلوا المسيرة التي بدأها ورفاقُه في ترسيخ هويتنا". والخوف كل الخوف أن يفعلها هؤلاء، ويصدّقوا أنهم على المسيرة نفسها. ولمّا استرسلت الأوساط الفلسطينية، الرسمية والأهلية، نهار أمس، في تزجية المراثي في صاحب "مزامير الأرض والدم"، فذلك طيّب. وفي البال أن منظمة التحرير لم تقصّر مع الرجل، وكرّمته في عدة مناسبات، غير أن الأطيب أن تُحمى في الوجدان الفلسطيني العام الروح العالية الثقة بالعودة إلى كل فلسطين، والتي ظلت تقيم في هارون هاشم رشيد، كما عبّر عنها في نصوصٍ غزيرة، منها ما يُطالَع في مناهج دراسيةٍ في غير بلد عربي، وهذا حسن. ومن شديد الأهمية أن يبقى اسمُه مُصانا من الإهمال والنسيان، وهو الذي استحقّ عدة ألقابٍ خُلعت عليه، شاعر العودة، شاعر النكبة، شاعر الثورة. وهذا صديقنا الشاعر غازي الذيبة يسمّيه أمس شاعر اليرغول الفلسطيني. وكان لقبا نابها الذي أذاعه صديقنا الشاعر عز الدين المناصرة عنه شاعر القرار 194 .. ذلك الذي قضت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة بعودة اللاجئين الفلسطينيين.