سيرة أوباما ومواقفه في "الأرض الموعودة"

25 اغسطس 2021
+ الخط -

يريد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، في كتاب مذكّراته "الأرض الموعودة" (هاشيت أنطوان/ نوفل، بيروت، 2021)، تقديم رواية عن سيرته منذ صغره وصولاً إلى مايو/ أيار 2011، وبالتحديد تلك الليلة التي اتخذ فيها قراره بتصفية أسامة بن لادن في باكستان في عملية "نبتون سبير"، وعن الوقت الذي أمضاه في رئاسة الولايات المتحدة، من خلال تدوين سرديته لوقائع وأحداث رئيسية عايشها وكان فاعلاً فيها، ونظرته إلى شخصيات مهمة قابلها وأقام علاقات معها، إضافة إلى تناوله كيفية تعامله مع بعض التيارات السياسية والاقتصادية والثقافية التي أسهمت في وضع تحدّيات أمام إدارته خلال فترة رئاسته.

خلال حملته الانتخابية أدرك أوباما أن كل رؤية لديه حيال سياسة أكثر نبلاً أصبحت مؤجلة 

يبدأ أوباما روايته بذكر تفاصيل عن بعض المحطات في حياته، بدءاً من نشأته العائلية في ولاية هاواي، برعاية جدّيه وأمه التي اصطحبته معها طفلاً إلى إندونيسيا، وعلمته حب القراءة، وتمكّنت من جعل أولادها الأربعة يتخرّجون من الجامعة، ثم رحلته في مرحلة الشباب بحثاً عن كيانيته وكيفية اقترابه وتعلّمه السياسة، واللحظات المهمّة من العهد الأول في رئاسته التي عايش فيها زمن تحوّلات كبيرة واضطرابات في الولايات المتحدة والعالم. ويقدّم أوباما وصفاً لذكريات طفولته في إندونيسيا، وفترة مراهقته الطبيعيّة والاجتماعيّة، ويروي أنه، في أعقاب انتهائه من المدرسة الثانوية، انتقل إلى لوس أنجليس في عام 1979 للالتحاق بكلية أوكسيدنتال. وفي 1981 انتقل إلى جامعة كولومبيا في نيويورك، ثم درس العلوم السياسية في كلية هارفارد للحقوق، وانتقل للعمل في شيكاغو، حيث التقى أوباما مع ميشيل روبنسون عام 1989 عندما كان يعمل في شركة محاماة فيها وتزوجا عام 1992، وأنجبا ابنتيهما ماليا وساشا.

الدخول إلى عالم السياسة

دخل أوباما عالم السياسة بعد نجاحه، وهو في الحزب الديمقراطي، في الفوز بمقعد في مجلس الشيوخ في ولاية إيلينوي عام 1996، لكنه بدأ يعي خلال حملته الانتخابية أن كل رؤية لديه حيال سياسة أكثر نبلاً أصبحت مؤجلة، ويمكن القول إن لا وجود لها، حيث كانت السياسة "سلسلة من الصفقات الخفية عموماً، إذ وازن المشرّعون بين الضغوط المتنافسة مع مختلف المصالح بتجرّد تجّار البازارات، مع مراقبة عن كثب لقضايا إيديولوجية ساخنة (السلاح، الإجهاض، الضرائب) ما قد يولّد ردود فعل من قاعدتهم". ومع ذلك بقي العمل السياسي يشكل هاجساً ملحاً على باراك أوباما، وقاده إلى خسارة السباق الانتخابي داخل الحزب الديمقراطي للترشّح إلى مجلس النواب في الدائرة الانتخابية الأولى في إيلينوي عام 2000 أمام المرشح "بوبي راش"، لكن هزيمته تلك شكلت فرصة كي يمهل نفسه وقتاً للتأمل والتعافي، ويعيد ترتيب أولوياته ويمنح عائلته وقتاً أطول. وعلى أثرها وجد نفسه يتغاضى عن رغبته في تحقيق فارق في العالم، لكن ذلك لم يمنعه مع السعي إلى "عمل سياسي يسد الفجوات العرقية والإثنية والدينية في الولايات المتحدة، فقرر عام 2004 الترشح لانتخابات مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية إيلينوي، ونحج فيها. يروي أوباما أنه، خلال وجوده في مجلس الشيوخ، نادراً ما كان يمرّ "أسبوع لا ألتقي فيه بصديق أو مؤيد أو أحد المعارف أو شخص غريب تماماً، يصرّ على أنه أدرك أنني سأكون رئيساً من اللحظة الأولى التي قابلني فيها أو سمعني أتحدّث على التلفزيون"، ثم يذكر تفاصيل عن دوافعه وحيثيات ومماحكات ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة، ويشير إلى التحديات التي واجهته في أثناء حملته الانتخابية، حيث كان التحدّي الأكبر الذي واجهه كي يثبت ولاءه للولايات المتحدة يتثمل في اسمه وتاريخ عائلته وكونه أسود والأفكار التقدمية التي حملها. كما يذكر تفاصيل أحاديث بينه وبين زوجته ميشيل التي كانت رافضة في البداية ترشّحه، لكن ذلك لم يخفف من إيمانه بأن من قاده إلى السياسة لم يكن مجرّد حلم كاذب، وأن الحلم بأميركا التي آمن بها يمكن أن يتحقق، وذلك على الرغم من اللحظات التي شكّ فيها بنفسه وخيبات الأمل التي مرّ بها. لذلك لم يتراجع أبداً عن إيمانه بأنّه داخل التجربة الأميركية من الممكن الوصول إلى قمة الجبل في الأرض الموعودة، حسبما قال ذات يوم الزعيم الأسود مارتن لوثر كينغ قبل اغتياله.

ماهية الرئاسة

نعثر في مذكرات أوباما على نظرته إلى ماهية الرئاسة الأميركية، والمدى الواسع للسلطات التي يتمتع بها الرئيس وحدودها، حيث سمع منذ انتقاله إلى المكتب البيضاوي أن "الرئاسة شبيهة بسيارة جديدة. تبدأ قيمتها بالتدنّي فور أن تخرج من موقف السيارات". ومع ذلك يدعو القارئ إلى استكشاف عالمها، والتعرّف على ديناميات السياسات الحزبية الأميركية، ويصحبه في رحلة إلى مختلف تفاصيل دهاليز البيت الأبيض، والتعرّف على حيثيات تمكّنه من هزيمة المرشح الديمقراطي، جون ماكين، في انتخابات 4 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2008، ليصبح الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتّحدة، وأول أميركي من أصل أفريقي يشغل أعلى منصب في الولايات المتحدة، تجسيداً لطموحات جيل تحرّك من أجل "الأمل والتغيير". ويعتبر أوباما نفسه معبراً عنها في مواجهة مختلف التحدّيات الأخلاقية التي قد تنتج عن القرارات البالغة الأهمّية التي اتخذها، لذلك راح يتكلّم عن القوى التي عارضته في داخل الولايات المتحدة وخارجها، إضافة إلى عدم نسيانه الحديث عن تأثير العيش في البيت الأبيض على زوجته وابنتيه. ويتذكّر أوباما قصصاً وتصورات مختلفة ومتناقضة عما تعنيه الولايات المتحدة بالنسبة إلى الذين يعيشون خارج حدودها، وقد علمته التجربة أن ينظر إلى بلاده من خلال عيون الآخرين، مذكّرة إياه كم أنه محظوظاً لكونه أميركياً، ولفتت انتباهه بألا يتعامل من النِعم التي يحظى بها وكأنها من المسلمات، خصوصا وأنه رأى بأم عينه قوة تأثير الولايات المتحدة على قلوب الناس وعقولهم في جميع العالم، فقد سمع في جاكارتا عن مئات آلاف من الناس الذين قتلوا في انقلاب تمّ بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وأرسى ديكتاتورية عسكرية في إندونيسيا عام 1967، واطلع على ما شرحه نشطاء من دول في أميركا اللاتينية عن الأضرار التي تسببها الشركات الأميركية في بلدانهم. ويتحدّث عن تعاطفه مع أصدقاء أميركيين من أصل هندي أو باكستاني أخبروه عن تعرّضهم المتكرّر لعمليات التفتيش في المطارات بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، ودفعه ذلك إلى القول "انتابني شعور بأن دفاعات أميركا واهنة، وصرت أرى ثغرات في دروعنا، وتأكدت من أن هذه الثغرات بمرور الوقت ستجعل بلدنا أقل أماناً". و"كانت رؤيتي المزدوجة هذه، إلى جانب لون بشرتي، الصفة التي ميزتني عن الرؤساء السابقين".

يتحدّث أوباما عن أنه "في مستهل كل يوم من أيام رئاستي، كنت أجد ملفاً جلدياً ينتظرني على مائدة الإفطار. أطلقت عليه زوجته "كتاب الموت والدمار والأمور الرهيبة"

ويتحدّث أوباما عن أنه "في مستهل كل يوم من أيام رئاستي، كنت أجد ملفاً جلدياً ينتظرني على مائدة الإفطار. أطلقت عليه زوجته ميشيل اسم "كتاب الموت والدمار والأمور الرهيبة". أما "رسمياً فهو يعرف باسم كتاب الإحاطة اليومية للرئيس. هو مستند سري للغاية، من 10 إلى 15 صفحة في العادة، وتعده ليلاً وكالة الاستخبارات المركزية". ومن خلاله يطلع الرئيس على أي شيء من المحتمل أن يؤثر على الأمن القومي الأميركي، مع ذكر المؤامرات الإرهابية المحتملة إلى جانب أخبار الخلايا الإرهابية في الصومال والاضطرابات في العراق وتطوير أنظمة الأسلحة الجديدة في الصين أو روسيا. وبعد الاطلاع على كتاب الإحاطة اليومية، يتوجه أوباما إلى المكتب البيضاوي للاستماع إلى الإحاطة بنسختها المباشرة من أعضاء مجلس الأمن القومي وطاقم الاستخبارات الوطنية، ومعالجة القضايا العاجلة، حيث تتركّز النقاشات على "المشاكل الحالية أو المحتملة: الانقلابات، والأسلحة النووية، والاحتجاجات العنيفة، والصراعات الحدودية، والأهم من ذلك كله الحروب". وكانت الحرب في أفغانستان والعراق في مقدمتها. وخلال ما يتذكره أوباما نعثر على أفكاره عند تشكيل الحكومة الأميركية وبعض تفاصيل مواجهته الأزمة المالية العامّة، والأوقات التي اشتبك فيها مع جنرالات الجيش الأميركي بشأن استراتيجية الولايات المتّحدة العسكرية في أفغانستان أو مصارعته لقوى المال عند قيامه بالإصلاحات في "وول ستريت"، وتغلّبه على الصعوبات التي اعترضت تمرير قانون الرعاية الصحّية وسوى ذلك.

نظرته إلى زعماء

ويسهب أوباما في الحديث عن زياراته الخارجية والقمم والمؤتمرات الدولية، مقدّماً وصفاً لمعظم الشخصيات العالمية التي قابلها والتقى بها، ويروي تفاصيل دقيقة عن القمم الدولية حين "يصل القادة واحداً تلو الآخر في سياراتهم الليموزين إلى مدخل مركز مؤتمرات كبير، ثم يمشون إلى جانب مجموعة من المصوّرين، في مشهد يشبه إلى حدّ ما حدثاً على السجادة الحمراء في هوليود، لكن من دون الفساتين الفاخرة والشخصيات جميلة المظهر"، ثم تأتي المصافحات والابتسامات أمام الكاميرات، ومحادثات قصيرة همساً، قبل التوجه إلى صالة المضيف لمزيد من المصافحات، بعدها ينتقل القادة إلى غرفة الاجتماعات. وقد اعتاد أوباما بعد مشاركته بعدة قمم على أن يجلب معه أوراق عمل للاطلاع عليها أو يحمل كتاباً كي يقرأه، أو أن يجري محادثات ثنائية في أثناء إلقاء القادة الآخرين كلماتهم.

ويبدو أن أوباما أراد في مذكراته القيام بما يشبه جردة حساب أو تصفية حسابات عالقة مع بعض قادة الدول، حيث لا يتردد في ذكر أسماء الزعماء الذين تركوا لديه انطباعاً جيداً ومن تركوا لديه انطباعات سيئة، وتحضر أسماء كثيرة مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ديفيد كاميرون، الذي وصفه بالهادئ والواثق، وأنه كان يتمتع "بثقة طبيعية لشخص لم تتعرّض حياته لضغوط شديدة من قبل"، وكان يشعر بارتياح تجاهه كشخص، لأنه أحبه شخصياً، حتى عندما كانا يختلفان. ويصف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بأن عينيها كانتا "كبيرتين وزرقاوين لامعتين تعكسان تارة المظهر المرح وطوراً الأسى"، وأنها "ثابتة، وصادقة، وصارمة من الناحية الفكرية، ولطيفة بالفطرة"، لكنها ارتابت فيه في البداية، بسبب بلاغته ومهارته في الحديث. ويرى أوباما أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الأسبق اجتمعت فيه "كل الانفعالات العاطفية، وفن الخطاب المبالغ فيه. بملامحه الشرق – أوسطية العابقة والمعبرة، وقوامه الصغير"، وكان أشبه بـ "شخصيةٍ من لوحات تولوز لوتريك". و"بعكس ميركل كانت أفكاره غير منتظمة عندما يتعلق الأمر بالسياسات، وغالباً ما تحركها العناوين الرئيسية أو المنفعة السياسية"، ويضيف أن "الحديث مع ساركوزي كان مسلياً تارّة ومستفزاً تارة أخرى، يترافق مع حركة يدين دائمة ونفخة صدر أشبه بديك البنطم".

يشبّه أوباما الرئيس الروسي بوتين بزعيم نقابة إجرامية

في المقابل، يصف أوباما الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيديف، بأنه "مثل طفل الملصق لروسيا الجديدة، شاب أنيق يرتدي بدلات عصرية مصمّمة على الطراز الأوروبي، إلا أنه لم يكن يملك السلطة الحقيقية في روسيا. احتل هذا المكان راعيه، فلاديمير بوتين: ضابط سابق في الاستخبارات السوفييتية". ويشبّه أوباما بوتين بزعيم نقابة إجرامية، وأنه كان "مثل حاكم مقاطعة، ولكنه لديه أسلحة النووية وحق الفيتو في مجلس الأمن الدولي"، ويُذكّره "بنوعية رجال كانوا يديرون شيكاغو، هم شخصيات صارمة تتمتع بدهاء لا تأبه للعاطفة، يعرفون ما يعرفونه، لم يبتعدوا عن تجاربهم الضيقة، كانوا يعتبرون المحسوبية والرشوة والابتزاز والاحتيال وأحداث العنف المتفرقة أدوات شرعية للتجارة".

النظرة إلى القادة العرب

ولعل ما يهمنا أكثر في هذا المجال هو ما ذكره أوباما عن البلدان العربية وقادتها في تلك الفترة التي عرفت بالربيع العربي، وشهدت قيام ثورات في كل من تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن وسواها، إذ نلاحظ أن أوباما يكتفي برواية بعض الأحداث بعد مرور وقت عليها، حيث يعرض صورة قاتمة وانطباعات سلبية حيال الزعماء العرب، وأنه ما يزال يخشى أن الضغوط التي مارسها خلال تلك الفترة لم تكن دائماً موضوعية، بالرغم من حديثه عن الطبيعة الاستبدادية لأغلب الدول العربية التي تحالفت معها الولايات المتحدة من أجل مصالحها، حيث "ركّزت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، على مدى نصف قرن، بشكل ضيق على الحفاظ على الاستقرار، ومنع أي توقف لإمدادات النفط، ومنع القوى المعادية، مثل روسيا ثم الإيرانيين، من توسيع نفوذهم فيه. واحتلت جهود مكافحة الإرهاب بعد الحادي عشر من أيلول مركز الاهتمام. تحالفنا مع المستبدّين من أجل تحقيق كل الأهداف السابقة".

ويسجل أوباما انطباعاته السلبية، بعد لقائه الأول مع الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، الذي يصفه بأنه "معزول عن الواقع بحكم سنه المتقدمة، وبقائه بعيداً عن الشارع، معتمداً على حاشيته"، ومثله مثل سائر المستبدين "فقد ترك لدي انطباعاً اعتدت عليه لاحقاً بالتعامل مع المستبدين المتقدمين في السن، فهم يعيشون في قصورهم فقط، وتعاطيهم مع الشارع يقتصر على ما يقوله مساعدوهم ذوو الوجوه القاسية وأصحاب الطاعة المطلقة ممن كانوا يحيطون بهم، فلم يكونوا قادرين على التفريق بين مصالحهم الشخصية وتلك المتعلقة بشعوبهم، فتصرفاتهم لم تكن محكومة إلا بهدف الحفاظ على شبكة من المحسوبين عليهم ورجال الأعمال الذي سيبقونهم في السلطة". ويعتبر أوباما أن "التحالف بين واشنطن والقاهرة والدعم السعودي والخليجي لمصر جعل الإدارات الأميركية المتلاحقة تتغاضى عن الفساد المتنامي وانتهاكات حقوق الإنسان في هذه الدولة". وعلى الرغم من ذلك كله، أصبحت القاهرة حليفاً لواشنطن إثر توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل. والصورة القاتمة ذاتها تكونت لدى أوباما خلال زيارته السعودية نظراً لفصلها الصارم بين الجنسين وقوانينها الدينية، ويصف شعوره الصادم من "القمع والحزن الذي يولده مثل هذا المكان الذي يمارس الفصل" بالقول: "كأنني دخلت فجأة إلى عالم أُسكتت فيه كل الألوان".

الثورات العربية

ويستغرق أوباما طويلاً في الحديث عن أحداث الثورة المصرية وموقفه من نظام مبارك، إذ يعتبر أنه لولا هذه الثورة لما اضطر للضغط على حليف أميركي مستبد، ويعتمد عليه مثل نظام مبارك. ويضيف: "قد لا أتمكّن من منع الصين أو روسيا من سحق معارضيهما، لكن نظام مبارك تلقى مليارات الدولارات من دافعي الضرائب الأميركيين؛ لقد زودناهم بالأسلحة وتبادلنا معهم المعلومات وساعدنا في تدريب ضباطهم العسكريين؛ وبالنسبة لي فإن السماح لمتلقي تلك المساعدات، لشخص نسميه حليفًا، بارتكاب أعمال عنف وحشية ضد المتظاهرين السلميين، أمام أنظار العالم كله، كان ذلك خطًا لم أرغب في عبوره". ويروي أوباما بعض تفاصيل الاتصالات التي تلقاها من القادة العرب الرافضين لضغوطه على مبارك خلال الثورة ومطالبته له بالتنحّي، خاصة من العاهل السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وملك الأردن عبد الله الثاني، حيث يقول "تذكرت مكالمتي التي أجريتها مع محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي لدولة الإمارات العربية المتحدة، والشاب المرهف الطباع، والمقرّب من السعوديين" و"أخبرني الشيخ محمد بن زايد أن التصريحات الأميركية بشأن مصر كانت محل متابعة عن كثب في دول الخليج، وبقلق متزايد. ماذا سيحدث إذا دعا المتظاهرون في البحرين الملك حمد إلى التنحي؟ هل ستصدر الولايات المتحدة بياناً مشابهاً لما أصدرته بشأن مصر؟". ورد أوباما: "أخبرته أنني آمل أن أتمكّن من العمل معه ومع الآخرين لئلا أضطر إلى الاختيار بين جماعة الإخوان المسلمين واحتمال حدوث صدامات عنيفة بين الحكومات وشعوبها". لكن بن زايد حذّر أوباما من أنه "إذا انهارت مصر وتولى الإخوان المسلمون السلطة، فهنالك ثمانية قادة عرب آخرين قد يسقطون"، و"هذا يدل على أن الولايات المتحدة ليست شريكا يمكننا الوثوق به على المدى الطويل".

ينطلق أوباما في تناوله الثورة السورية من رؤية طائفية ضارباً عرض الحائط بكل ما يطالب به المحتجون السوريون من قيم مدنية وديمقراطية

ويتناول أوباما أحداث الثورة السورية في مذكّراته بالقول إن "من بين البلدان التي شهدت أسوأ أعمال العنف سورية والبحرين، حيث كانت الانقسامات الطائفية شديدة والحكم بيد أقلية ذات امتيازات واسعة، مما أثار امتعاض الأكثرية الشعبية. في سورية أدى اعتقال وتعذيب خمسة عشر تلميذاً كتبوا شعارات مناهضة للحكومة على الجدران في آذار/ مارس 2011 إلى اندلاع احتجاجات كبيرة ضد النظام العلوي بقيادة بشار الأسد في العديد من المناطق ذات الغالبية السنّية في البلاد. وبعد أن فشل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والضرب والاعتقالات الجماعية في إخماد التظاهرات، شنت قوات الأمن التابعة للأسد عمليات عسكرية واسعة النطاق في عدّة مدن، ولجأت إلى استخدام الرصاص الحي، والدبابات، وتفتيش المنازل".

إذاً، منذ البداية يربط أوباما بين العنف في كل من سورية والبحرين والانقسامات الطائفية المجتمعية في كلا البلدين، وبناء على هذا التصوّر المبني على صراع طائفي بين جماعتين سوريتين أكثرية وأقلية، ينطلق أوباما في تناوله للثورة السورية، ضارباً عرض الحائط بما كان يطالب به المحتجون السوريون من قيم مدنية وديمقراطية وحقهم في الحرية والخلاص من الاستبداد، لكن الأنكى أن يتم تصوير نهج القتل إلى لجأ إليه نظام الأسد وكأنه مجرد ردّ فعل على التظاهرات الاحتجاجية والشعارات المناهضة للنظام، كما أن الربط الميكانيكي بين ما جرى في كل من سورية والبحرين مجحفٌ للغاية بحق المحتجين السوريين. ويضيف أوباما "قضيت وفريقي ساعات نفكر في كيفية التأثير في مجرى الأحداث في سورية والبحرين، لكن خياراتنا كانت للأسف محدودة للغاية"، مبرّراً ذلك بأن الولايات المتحدة لم يكن لها نفوذ على نظام الأسد المتحالف مع روسيا وإيران كالنفوذ الذي كان لها على مصر. أما "في البحرين فقد واجهتنا مشكلة معاكسة، فالدولة حليف قديم للولايات المتحدة، وفيها قاعدة للأسطول الخامس للبحرية الأميركية. سمحت لنا تلك العلاقة بالضغط سراً على الملك حمد ووزرائه للاستجابة لبعض مطالب المحتجين والحدّ من عنف الشرطة".

أخيراً، يشكل كتاب "الأرض الموعودة"، الذي ترجمه إلى العربية كل من كارول حداد وأدونيس سالم وعبد إياس، الجزء الأول من مذكرات أوباما، التي يسجل فيه بلغة دبلوماسية بليغة أبرز محطات رحلته الشخصية، والأفكار التي يحملها ونظرته إلى الولايات المتحدة والعالم، وكيفية معالجته للأحداث الرئيسية خلال فترة رئاسته الأولى، ومواقفه من القوى السياسية والاقتصادية والثقافية التي واجهها داخل الولايات المتحدة وخارجها، لكنه يتجنب الصراحة والحقيقة المثيرة الكاشفة.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".