سياسات حكومة نتنياهو: وجها العملة الفاشية

09 مارس 2023
+ الخط -

حرصت التيارات الصهيونية المشاركة في الاحتجاجات ضد حكومة التطرّف اليميني في إسرائيل على النأي بنفسها عن الموضوع الفلسطيني، كيف لا وأبرز قادة الاحتجاجات، أمثال يائير لبيد وبيني غانتس، هم الذين قادوا "حكومة التغيير" بين يونيو/ حزيران 2021 وديسمبر/ كانون الأول 2022، التي عُرفت بأعلى معدلات استباحة المدن الفلسطينية وتنفيذ عمليات القتل والإعدام الميداني، والشروع بتغيير الوضع التاريخي القائم في القدس والمسجد الأقصى. ودفع هذا الموقف لقادة الاحتجاج من الموضوع الفلسطيني القوى الممثلة لفلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 إلى الإحجام عن المشاركة في التظاهرات في البداية. ولكن شيئا فشيئا، ومع إيغال حكومة نتنياهو- سموتريتش- بن غفير في سياساتها الوحشية تجاه الفلسطينيين من جهة، والانقلاب على القضاء ومحاولات تغيير النظام السياسي في إسرائيل، يتأكّد الارتباط الوثيق بين سياسات التطرّف على الجبهتين، وأنهما وجهان لعملة واحدة، هي الفاشية الصهيونية المتطرّفة. وليس هذا الحكم تقييما فلسطينيا، بل هو شعار يرفعه الآلاف في احتجاجاتهم الصاخبة في شوارع تل أبيب والقدس وحيفا، وتحذيرات يطلقها قادة سياسيون وعسكريون خدموا في أرفع مواقع الدولة العبرية، وتحليلات باتت تحتلّ مساحات واسعة من وسائل الإعلام الإسرائيلية، وبدأت تشقّ طريقها في عالم الأكاديميا.

معروفٌ تاريخيا أن الأنظمة الفاشية والنازية، ومن يسير على خطاها من أحزاب وتيارات اليمين الجديد واليمين الشعبوي المتطرّف، تتخذ مواقف متطرّفة وعنصرية تجاه "الآخر"، وإنكار حقوقه السياسية والمدنية، سواء كان الآخر مختلفا في الدين أو العرق أو القومية أو اللون، إلى جماعات المهاجرين من دول المستعمرات القديمة إلى أوروبا، وصولا إلى رفض "الآخر" من أبناء جلدتهم، إذا كان مختلفا في آرائه ومواقفه السياسية والفكرية.

في مقال له في صحيفة يديعوت أحرونوت، بتاريخ 28/2/2023، شبّه ناحوم بارنيع المحرقة التي وقعت في بلدة حوارة الفلسطينية ب"ليلة البلور" والتي يذكرها اليهود جيدا، ويتعلمون عنها في كتبهم المدرسية، وهي ليلة العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1938، حين أطلق الحكم الألماني النازي وقتها حشودَه الجماهيرية المتعصّبة للانتقام من اليهود، ردّا على اغتيال مسؤول حكومي على يد مراهق يهودي، فهاجمت الجماهير الغاضبة منازل اليهود وأحرقتها، كما دمرت محلاتهم التجارية وممتلكاتهم وقتلت مئات منهم.

حظيت محرقة حوارة بإشادة الوزيرين المتطرّفين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، فأثارا عاصفة من ردود الفعل المستنكرة التي وصلت بمسؤولين أميركيين وأوروبيين للتعبير عن الاشمئزاز من مثل هذه التصريحات التي تمجّد الجريمة وتدعو إلى اعتمادها وسيلة رسمية من الدولة. ولم يقتصر الأمر عند المعارضين على الإدانة والشجب، فنحو عشرين رجل قانون من المحامين وكبار أساتذة القانون الإسرائيليين قدّموا طلبا رسميا للمستشارة القضائية للحكومة (وظيفة تقوم مقام مدّعي عام الدولة)، غالي بهاراف، لفتح تحقيق جنائي مع وزير المالية، المسؤول أيضاً عن شؤون المستوطنين، سموتريتش، بتهمة الحض على ارتكاب جريمة حرب، فما كان من المستشارة سوى قبول الدعوى والبدء في الإجراءات المناسبة.

الفاشية متغلغلة حتى في أوساط المعارضة الإسرائيلية

وقد وصفت افتتاحية صحيفة هآرتس في 3 مارس/ آذار الحالي الوزير سموتريتش بأنه مجرم حرب، يرفض خصخصة جريمة حوارة ونسبتها إلى أفراد، بل يريد لهذا "الشرف" أن يكون من اختصاص الحكومة. وتبدي الصحيفة استغرابها من أن رئيس الحكومة نتنياهو لم يسارع إلى طرد هذا الوزير من حكومته مكللا بالعار. أما المحلل عاموس هرئيل فقد وصف أعمال المستوطنين في حوارة وقرى جنوب نابلس بأنه "كوكلوكس كلان" اليهودي، في إشارة إلى عصابات البيض العنصرية في أميركا التي ارتكبت الفظائع ضد الأميركيين الأفارقة. ورفض هرئيل تبريراتٍ ساقها نتنياهو مدّعيا أن ما جرى في حوارة كان نتيجة هياج لحظي و"فورة دم" بسبب مقتل مستوطنين في القرية عينها. ويؤكّد المحلّل الإسرائيلي أن هذه العملية كانت مخطّطة ومنظّمة جرى التحضير لها على مدى السنوات الماضية عبر عمليات نفذتها جماعات "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" عقب كل عملية فدائية فلسطينية.

بدأت هذه الأوصاف التي تطلق على السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تنتشر في وصف ما تفعله الحكومة اليمينية في مجتمعها وتجاه اليهود المختلفين معها، ومن أبرز التحليلات في هذا الشأن وأكثرها دلالة وحِدّةً ما ورد على لسان الأستاذ في دائرة التاريخ اليهودي ومعهد اليهودية المعاصرة في الجامعة العبرية، والمختص في موضوع "الإبادة الجماعية" التي تعرّض لها اليهود على يد النازية دانييل بلاتمان، في مقابلة نشرها موقع ميديا بار الفرنسي في 27 فبراير/ شباط "في إسرائيل، بعد شهرين من الانتخابات، بدأت حكومة نتنياهو، من خلال الكنيست، الذي يسيطر عليه ائتلافه، إحداث تغييرات تم تقديمها كإصلاحات لكنها تغيّر طبيعة النظام، بل تهدّد وجود النظام الديمقراطي ذاته. هذا بالضبط ما حدث في ألمانيا... الذين يقودون هذه الثورة في إسرائيل هم من أشدّ المتطرفين. .. في أي ديمقراطية غربية، سيتم اعتبارهم نازيين جدد. إنهم ليسوا يميناً متطرّفًا، بل أكثر من ذلك بكثير".

من علامات الفاشية الواضحة والدامغة، هجوم نتنياهو الدائم على ما يسميها "النخب" وادعاؤه الانتماء للشعب والجماهير، وحتى لـ"الرعاع"، كما قال في أحد تصريحاته وسط هتافات مؤيديه من اليهود الشرقيين، في مواجهة الشرائح العليا من الطبقة الوسطى المنحازة تاريخيا لحزب العمل ويسار الوسط، هؤلاء المسيطرين على مفاصل الدولة والجيش والقضاء ووسائل الإعلام.

يرصُد خصوم نتنياهو اختياره الهجوم على القضاء، لأن نتائج هذه المعركة سوف تتيح له التحكّم بمجريات الصراع في باقي الحلبات

يرصُد خصوم نتنياهو اختياره الهجوم على القضاء، لأن نتائج هذه المعركة بالتحديد هي التي سوف تتيح له التحكّم بمجريات الصراع في باقي الحلبات. وسيضمن تطويع القضاء إزالة أي كوابح لاندفاعة اليمين المتطرّف، اختار نتنياهو لهذه المهمة أحد أعوانه وهو وزير القضاء ياريف لافين، الذي بدأ في الترويج لهذه المهمة منذ العام 2011، وأبرز ملامح هذه الخطة هي التدخل في تعيين لجنة اختيار القضاة بزيادة حصة الحكومة على حساب المجتمع المدني ممثلا بنقابة المحامين، وتمكين البرلمان (الكنيست) من نقض صلاحيات المحكمة العليا ومنع الأخيرة من ردّ القوانين، وتحويل المستشارين القضائيين للحكومة والوزارات إلى مجرّد مستشارين، رأيهم لا يلزم أحدا، وهم من كان يطلق عليهم لقب "حرّاس العتبة" باعتبارهم جزءا من منظومة العدل. وقد مهّدت حكومة نتنياهو لهذا الانقلاب بتشريع قوانين مفصّلة تفصيلا على مقاسات وزراء الحكومة في ما سماه خصوم الحكومة "خطف القوانين"، فسُنّ قانون سمّوه قانون بن غفير يقود إلى تسييس جهاز الشرطة، وقانون باسم سموتريتش لاستحداث منصب وزير ثان في وزارة الجيش، وقانونا ثالثا (ردّته المحكمة العليا) باسم درعي لتمكينه من تبوّء منصب وزاري على الرغم من إدانته، أما درّة هذا القانون فسوف يكون قانون نتنياهو الذي يقضي بتحصين الأخير ومنع محاكمته وضمان تملّصه من العقاب، واللافت أن كل هذه القوانين جرى إقرارها بأغلبية ميكانيكية من 64 نائبا هم جميع أعضاء الائتلاف.

على المقلب الآخر، أقرّت الكنيست، نهائيا أو بالقراءة التمهيدية، قوانين تجرّم النضال وتمنع رفع العلم الفلسطيني، وتسعى إلى فصم ارتباط فلسطينيي الداخل والقدس بباقي شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، بسحب الجنسية أو الإقامة الدائمة لكل من يشارك في النضال الفلسطيني ويتلقّى مساعدة من السلطة، وتعيد حكم الإعدام لمنفذي بعض العمليات الفدائية. اللافت أن هذه الرزمة من القوانين ضد الفلسطينيين حظيت بتأييد أكثر من 70 نائبا وأحيانا أكثر، ما يعني أن الفاشية متغلغلة حتى في أوساط المعارضة التي تضمّ أحزابا يمينية متطرّفة مثل حزبي أمل جديد ويسرائيل بيتينو، وحتى في الحزب الذي يقوده غانتس، ويسمّى المعسكر الرسمي.