سياسات إقليمية جديدة أم إعادة تموضع مؤقت؟

18 ديسمبر 2021
+ الخط -

مع اقتراب طي عقد كامل من الاضطرابات الواسعة التي سادت العلاقات الإقليمية، تُظهر دول المنطقة رغبة في تجاوز تلك المرحلة، وفتح صفحة جديدة فيما بينها ترتكز على إعادة تفعيل الدبلوماسية في إدارة خلافاتها، والتخلي عن عسكرة السياسة الخارجية التي انتهجتها خلال السنوات العشر الماضية في الصراعات التي انخرطت فيها من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا. بعد اندلاع الربيع العربي في 2011، انخرطت القوى الإقليمية الرئيسية، السعودية وتركيا وإيران، في سياسة التكتلات لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة. لم تكن هذه السياسة جديدة على المنطقة قبل الربيع العربي، لكنّها لم تكن بذلك الزّخم، من حيث عدد الأطراف المُنخرطة فيها والتنافس الحاد بينها، فضلاً عن التقلبات التي شهدتها على مدار العقد، فبعد إطاحة حكم الرئيس الراحل، محمد مرسي، في العام 2013، خرجت مصر من التكتل الداعم للربيع العربي، وانضمّت إلى التكتل المناهض له. ظل هذا الستاتيكو قائماً حتى مطلع عام 2021، حين بدأت دول الإقليم في تبنّي سياسات جديدة تجاه بعضها بعضا. دخلت تركيا في مفاوضاتٍ مع مصر والإمارات والسعودية لإصلاح العلاقات، فيما أنهى الثلاثي مقاطعته قطر، بينما شرعت السعودية في حوار مباشر مع إيران بوساطة عراقية، وأرسلت أبوظبي مستشار الأمن القومي لديها إلى طهران. كما أعادت دول عربية كالأردن والإمارات علاقاتها مع دمشق.

في ظل ذلك، تبرز تساؤلات عن طبيعة التحوّل الجديد في العلاقات الإقليمية وآفاقه، وما إذا كان يُمهد بالفعل لمرحلة جديدة، أم أنه مُجرّد إعادة تموضع مؤقت في سياسات القوى الفاعلة، بما يتناسب مع وضعين إقليمي ودولي جديدين قد لا يستمرّان طويلاً. لفهم هذه التحولات، لا بُد أولاً من تفسير دوافعها الفعلية التي أملت على جميع الأطراف انتهاج سياساتٍ خارجيةٍ جديدة في هذه المرحلة. بالنّظر إلى أن هذه التحوّلات ظهرت مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن العامل الأميركي يبدو المُحرك الرئيسي لها، فبعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، شرعت إدارته في تخفيض حادٍّ لأعداد الأنظمة الأميركية المضادّة للصواريخ في الشرق الأوسط، معظمها في السعودية ضمن عملية إعادة تنظيم تركز على التحدّيات التي تُشكلها روسيا والصين. كما خفّضت وجودها العسكري في العراق بمقدار النصف. علاوة على ذلك، أوقفت دعمها العسكري لعمليات التحالف الذي تقوده الرياض في اليمن، وبدأت بممارسة الضغوط عليها لإنهاء الحرب، في وقتٍ شرعت في مفاوضاتٍ مع طهران لإعادة إحياء البرنامج النووي. دفع هذا التحوّل دول الخليج التي كانت تعتمد، في الماضي، بشكل رئيسي على الولايات المتحدة في تأمين احتياجاتها الأمنية ومصالحها الإقليمية إلى إعادة تنظيم سياساتها الإقليمية، للتكيف مع الوضع الإقليمي الجديد عبر إعادة ترتيب البيت الخليجي، والانفتاح على تركيا والدخول في حوار مع إيران بهدف الحدّ من تداعيات التحول الأميركي عليها.

أبدت إيران، عقب تولي الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي السلطة، رغبتها في إصلاح العلاقات مع دول الجوار، لا سيما السعودية

كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعودة حركة طالبان إلى السلطة رسالة أخرى على توجه أميركي جديد لتخفيف الانخراط في بعض المناطق، ومنها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لصالح التركيز على التحدّيين، الصيني والروسي. كما أن الوضع الجديد الذي نشأ في مجال الاقتصاد بعد أزمة كورونا والتنافس الاقتصادي بين السعودية والإمارات دفع الطرفين إلى البحث عن فرص اقتصادية جديدة. كذلك، يرتبط الانفتاح السعودي على الحوار مع إيران بمساعي الرياض للتوصل إلى تسويةٍ للحرب اليمنية التي استنزفتها عسكرياً واقتصادياً، مع تراجع الدعم الأميركي لها. في ضوء العامل الأميركي المؤثر بفعالية في التوجّهات الإقليمية الخليجية، فإن السياسات الخليجية الجديدة ستستمر، على الأقل خلال السنوات الثلاث المتبقية من عهد الرئيس بايدن. لكنّها قد تتغيّر فيما لو أفرزت الانتخابات الرئاسية المقبلة وضعاً مغايراً لما هو عليه الآن. قد يُجادل بعضهم بأن التحوّل الأميركي في مقاربة الوضع الإقليمي لم ينشأ نتيجة لوصول الديمقراطيين إلى السلطة، بل بدأ مع إدارة أوباما التي لم يكن لها تأثير كبير في الصراعات الإقليمية، باستثناء جهودها في مكافحة تنظيم داعش في سورية والعراق، وبأن الرئيس ترامب لم يُحدث تغييراً كبيراً في سياسة سلفه أوباما، وإن أخرج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع طهران. لكنّ الغطاء الكبير الذي منحه ترامب للدور الإقليمي للسعودية والإمارات لم يعد موجوداً بعد رحيله، وقد يعود بالفعل فيما لو نجح الجمهوريون في العودة إلى البيت الأبيض بعد ثلاث سنوات.

بالنسبة لتركيا التي كانت سبّاقة في عملية إعادة تنظيم العلاقات الإقليمية، حاولت التكيّف بسرعة مع التحول الأميركي الذي ضغط عليها لتسوية خلافاتها مع القوى الفاعلة في محيطها العربي، سيما أن إدارة بايدن تنتهج سياساتٍ متشدّدة للغاية تجاه أنقرة، على عكس ترامب الذي ساعدت سياساته في المنطقة تركيا على تعزيز حضورها العسكري في سورية وليبيا وقطر. بالإضافة إلى العامل الأميركي، يبرز عاملان آخران رئيسيان دفعا أنقرة إلى تبنّي نهج جديد في علاقاتها مع مصر ودول الخليج، هما وضعها في صراع شرق المتوسط، وتزايد الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها جرّاء الأزمة مع السعودية والإمارات ووباء كورونا. ففي صراع شرق المتوسط، برزت حاجة أنقرة إلى إصلاح العلاقات مع القاهرة، لتفكيك التحالف الإقليمي المُشكل ضدّها في هذا الصراع، بعد اصطفاف مصر والثنائي الخليجي وإسرائيل إلى جانب اليونان وقبرص الجنوبية. وعلى الصعيد الاقتصادي، أحدث التوتر مع دول الخليج مصاعب اقتصادية جديدة على تركيا، بفعل تراجع الاستثمارات السعودية والإماراتية خلال السنوات الماضية، فضلاً عن عرقلة حركة التجارة التركية مع دول الخليج والدول العربية الأخرى. مع اقتراب تركيا من انتخابات 2023 الحاسمة، يتطلّع أردوغان إلى المنافع السياسية والاقتصادية المحتملة من وراء انعطافته الإقليمية الراهنة. لكنّه من غير المُرجح أن يتراجع عن المكاسب الكبيرة التي حققتها تركيا في الإقليم خلال العقد المنصرم، وجعلت منها قوة إقليمية مؤثرة في صراع الجغرافيا السياسية.

فرص حدوث تحوّل جوهري في العلاقات الخليجية الإيرانية مرهونةً بالدرجة الأولى بتغيير السلوك الإيراني في الإقليم وهذا مستبعد

أما إيران التي لم تُحدث تغييراً جوهرياً في سياستها الإقليمية مقارنة بالآخرين، فإنها أبدت، عقب تولي الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي السلطة، رغبتها في إصلاح العلاقات مع دول الجوار، لا سيما السعودية، وقد دخلت بالفعل في حوار مع الرياض وأبوظبي، بيد أن فرص نجاح هذا الحوار تبدو محدودةً للغاية، في نزع التوترات الإقليمية بين الطرفين. في الوقت الراهن، يُركّز الإيرانيون على مفاوضاتهم مع القوى الغربية لإعادة إحياء الاتفاق النووي، لكنّ هذا المسار تعترضه عقباتٌ عديدة، وقد لا ينجح، وهم يبحثون عن خياراتٍ أخرى لمواصلة التعايش من دون اتفاق نووي من خلال تعزيز شراكتهم الاقتصادية مع الصين، ومحاولة ضبط خلافاتهم مع الخليج، في مقابل منافع اقتصادية يطمحون إليها. تبقى فرص حدوث تحوّل جوهري في العلاقات الخليجية الإيرانية مرهونةً بالدرجة الأولى بتغيير السلوك الإيراني في الإقليم وهذا مستبعد، وكذلك بمستقبل العلاقات الخليجية الأميركية. كان المجال الاقتصادي والتحوّط من تداعيات التحول الأميركي المدخل الرئيسي لإعادة إحياء العلاقات بين القوى الإقليمية المتنافسة، لكن الخلافات بين مختلف هذه الأطراف في القضايا الإقليمية الرئيسية لا تزال قائمة، كاستمرار تضارب المصالح بين تركيا وكل من السعودية والإمارات ومصر في سورية وليبيا، وكذلك بين إيران ودول الخليج في سورية والعراق واليمن ولبنان.

هنالك ثلاثة متغيّرات رئيسية ساهمت في فتح مسار جديد في العلاقات التركية الخليجية والخليجية الإيرانية. أوّلها تراجع تأثير تيار الإسلام السياسي الذي شكّل نقطة الخلاف الرئيسية بين تركيا والقوى العربية الفاعلة، وثانيها حل الأزمة الخليجية التي كانت عقبةً رئيسيةً في إصلاح العلاقات بين تركيا ودول الخليج الأخرى، وثالثها انفتاح كل من تركيا وإيران على الحوار مع القوى العربية. مع ذلك، لا تزال قضايا الخلاف الرئيسية تُشكل عقبةً رئيسيةً أمام إنهاء الاستقطاب الإقليمي بالكامل. ومن غير الواضح مدى قدرة هذه الأطراف على مواصلة النهج الجديد من دون تسوية خلافاتهم الإقليمية. انطلاقاً من ذلك، مستقبل الوضع الإقليمي الجديد الناشئ مرهون بثلاثة عوامل رئيسية: أولاً، تطوير التفاهمات على إدارة الخلافات بين القوى الإقليمية المختلفة إلى مفاوضات تتناول كيفية إيجاد حلول نهائية لها. ثانياً، الانتخابات التركية التي ستُجرى في 2023، وسيتحدد على ضوئها مستقبل الدور التركي في المنطقة، والمرهون على نحو كبير ببقاء أردوغان في السلطة. ثالثاً، الانتخابات الرئاسية الأميركية في 2024، والتي قد تحسم شكل العلاقات المستقبلية بين واشنطن ودول الخليج. بانتظار ذلك، تبدو السياسات الجديدة لدول الإقليم أقرب إلى إعادة تموضع مؤقت، ريثما يتضح مستقبل العوامل الثلاثة المذكورة. كما أن تهدئة الصراعات الإقليمية ستستمر على الأرجح خلال هذه الفترة.