سورية والغزو الثقافي الداخلي
يتحدّث إعلام النظام الأسدي، بشكل دائم، عن مفهومٍ غريبٍ اصطلح على تسميته "الغزو الثقافي"، وملخّصه أن الدوائر الاستعمارية الإمبريالية الصهيونية لا يهمها من دول القارات الخمس غير سورية، قلب العروبة النابض، قلعة الصمود والتصدّي .. ولهذا تُصَدِّرُ لنا أفكاراً خبيثة، ملغومة، القصدُ منها زعزعة ثقافتنا القومية الاشتراكية، وتهديد وجودنا وكياننا، ليصبح سهلاً على الصهيونية العالمية وإسرائيل إخضاعُنا، وامتصاص خيراتنا، إلى آخر ما هنالك من هذا العلك الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
يتضمّن اختراعُ مفهوم "الغزو الثقافي"، في الواقع، دعوةً ملحّة إلى الانغلاق، وأن يكتفي الشعب السوري بقراءة منهاج التثقيف الحزبي، والإصغاء إلى قصائد صابر فلحوط ونجيب جمال الدين، ومشاهدة مسلسلات نجدت أنزور، وسماع برنامج "أرضُنا الخضراء" من الإذاعة، وحفظ خطابات حافظ الأسد وأعضاء القيادتين القومية والقُطرية لحزب البعث، وأمناء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وبالأخص الأخ صفوان قدسي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري، الذي كان يعترض على ترشيح حافظ الأسد لرئاسة الجمهورية مرة كل سبع سنوات، ويرى أن واجب السوريين كلهم انتخابه مرة واحدة، وإلى الأبد.
يتضمّن ترسيخ مفهوم الغزو الثقافي، من جهة أخرى، اتهاماً حقيراً للشعب السوري بأنه أهبل، مهزوز، يتلقى ما يأتيه من ثقافة الغرب الإمبريالي مثلما يتلقى الجائع رغيفاً تنورياً ساخناً، ويَقبل، برحابة صدر، أن يتشوّه تفكيرُه، ويتأمرك، ويتصهيَن، ويصبح جاهزاً للاقتلاع من الجذور. (للجذور، بالمناسبة، شجون أخرى عند الأنظمة الديكتاتورية، تشبه، إلى حد بعيد، الحديث عن "الأصل" الذي كان المطرب الصعيدي محمد طه يعبر عنه بإنهاء مواويله كلها بعبارة: ع الأصل دَوَّر).
تقول كتب التاريخ إن دولة الخلافة الإسلامية قد شهدت، في عهد الخليفة العباسي المأمون، أواخر القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الميلادي، أكبرَ انفتاحٍ على الثقافات العالمية، فالمأمون، وبغض النظر عن مثالبه التي لا تختلف كثيراً عن مثالب بقية الحكّام، أحدث نقلة نوعية في بنية الدولة، إذ "شجع ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية، وأسّس أكاديمية سُميت بيت الحكمة، واستورد من بيزنطة مخطوطات خاصة بالأعمال المهمة التي لم تكن موجودة في البلدان الإسلامية .. وفي سبيل تنمية الاهتمام بالعلوم، أنشأ مراصدَ تساعد العلماء المسلمين على التحقّق من المعرفة الفلكية التي دونت بلغتهم منذ العصور القديمة".. وفي عهده، بلغت المناظرات الفلسفية والفكرية الأوج. وقد مشى الأمر على هذا المنوال طيلة السنين اللاحقة من عمر هذه البلاد، فكلما انفتحت دولُها، أو دويلاتُها، على الثقافات الأخرى نمت وتقدّمت وازدهرت، وكلما اتجهت نحو التعصب والانغلاق ازداد التخلف، والجهل، واشتدّ ساعد الديكتاتورية، واحتدم التناحر القومي والمذهبي.
مشكلة الشعب السوري، برأي كاتب هذه السطور، ليست مع الغزو الثقافي الخارجي، بل الداخلي، المحلي، فنظام حافظ الأسد يعرف، تمام المعرفة، أنه مغتصِب الدولة السورية، مضمر استعبادها وتحويلها إلى جمهوريةٍ وراثية. ولهذا يجيب على أسئلة الشعب اليومية باختراع مفاهيم ومصطلحات كاذبة، يدافع بها عن نفسه، فإذا جاع الشعب، نتيجة النهب الممنهج الذي تقوم به عصابته، يجيبه الإعلام بأننا دولة مواجهة، وهذا يتطلب تخصيص 85% من الموازنة السنوية لدعم القوات المسلحة. وإذا طالب بالحرية، يرد الإعلام بأننا نقوم بواجب "الصمود والتصدّي"، نيابة عن الأمة العربية كلها، ونسعى إلى تحقيق "التوازن الاستراتيجي". لذا لا بد من قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وتزويد أجهزة الأمن بما يكفي من الكراسي الألمانية والدواليب ومآخذ الكهرباء، وتوسعة السجون، ومدّها بعشرات ألوف من المعقلين، وضربهم، وكهربتهم وإذلالهم، ليصبحوا قادرين على حبّ القائد، والقائد بدوره يعرف كيف يستخدم التكتيك العسكري، ويترك للعدو الإسرائيلي، بين الحين والآخر، بضعة كيلومترات مربعة من الأرض، ويلتفت إلى الداخل، موعزاً لجوقاته الإعلامية بأن تغني أنا سوري وأرضي عربية، وتكتب على لافتاتٍ، تلعب بها الرياح: سورية الله حاميها.