سورية بلا سوريين
أعتقد أننا، نحن السوريين، بحاجة إلى مناقشاتٍ هادئة، وطويلة، ومعمقة، حول مفهوم الوطنية. لا يجوز الزعمُ بأن هذا المفهوم كان غائباً تماماً، لكن الأصح أنه كان قليلَ الانتشار على ساحة الوطن السوري، وأنه لم يكن محبباً لدى السواد الأعظم من السوريين، بل لعله مرفوض، ومُحَارَب.
التيار القومي، العروبي، الذي باشر الصعودَ في أواخر الخمسينيات، تشعبَ إلى فريقين، انهمك الأولُ بالتهليل للوحدة (اللي ما يغلبهاش غَلاب) مع مصر. وكانت تلك باكورة الطعنات في ظهر الوطنية السورية، إذ سرعان ما ألغي اسم "الجمهورية السورية" ليصبح اسم بلادنا: الإقليم الشمالي... وألقي العلم السوري في سلة المهملات، ليرتفع مكانه علمُ الجمهورية العربية المتحدة.
لم تكن فكرة الوحدة، بالنسبة لنا، آنذاك، سيئة، فالأساس المنطقي الخاص بالوحدات والاتحادات يقوم، نظرياً، على مبدأ التكتل الاقتصادي الذي يجعل الدولة المتحدة أقوى من كل دولةٍ منفردةٍ على حدة، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي، والاتحاد اليوغسلافي، وتشيكوسلوفاكيا... إلخ. ولكن التطبيق العملي للوحدة كان يأخذنا إلى حالاتٍ مضحكة، إذ نسي الناس بلادَهم، وشعبَهم، والقضية القومية ذاتها، والتكتلَ، والتنميةَ، والنهضة... وفتحوا باب التغزّل برئيس الجمهورية العربية المتحدة! فكان السوريون، يخرجون، بمناسبةٍ أو من دون مناسبة، إلى الشوارع، ويصيحون: ناصر ناصر ناصر. الصحف تكتب عن مآثر ناصر، وإنجازات ناصر، والإذاعات تغني لناصر الذي لم يعد محبوباً لدى شريحة واحدة، أو عدة شرائح من الشعب، وإنما هو معبود الجماهير، وحبيب الملايين، وزعيم الأمة العربية التاريخي. وفي لحظة الانفصال، خرجتْ الجماهيرُ السورية، لا لتطالب بعودة الوحدة مع مصر الشقيقة العربية الكبيرة، وإنما لترديد هتاف (بدنا الوحدة باكر باكر مع الأسمر عبد الناصر). هذا الهتاف يغرينا بالنسج على منوال أبي نواس الذي أراد أن يهجو ظاهرة الوقوف على الأطلال فقال:
قل لمن يبكي على رسمٍ دَرَسْ/ واقفاً ما ضرّ لو كان جلسْ؟
فنتساءل عن أهمية كون عبد الناصر، رحمه الله، أسمر البشرة، يعني، لو كان أشقر بعينين زرقاوين، مثلاً، أما كنا أحببناه؟
وتشكلت أحزابٌ، ويا للطرافة، سميت الأحزاب الناصرية، فكنت ترى، في آخر قرية سورية من جهة الشمال أو الشرق، رجلاً ما، تسأله: ما أنت؟ فيقول لك، بكل رباطة جأش: أنا ناصري.
وكان الفريق الوحدوي الآخر، أعني فريق حزب البعث العربي الاشتراكي، أكثر سرحاناً في عالم الخيال والأوهام من سابقه، إذ ضرب عرض الحائط بالمثل القائل (أيه اللي لَمّ الشامي على المغربي)، وقرّر أن سورية ليست سوى جزء صغير من الوطن العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج، وأنه لا يجوز أن نستبعد منه زاويةً صغيرةً، حتى ولو كانت في آخر معامر الله، كجزر القمر، أو ساقية الذهب... وأن تسمية "الجمهورية السورية" ليست سوى استجابة لرغبة الاستعمار الذي يعمل على مبدأ (فَرِّقْ تَسُدْ)، ويسعى إلى تغذية الفكر الانفصالي الموجود أساساً لدى البرجوازية والرجعية وأذناب الاستعمار، وإنّ علينا أن نعتمد، مبدئياً، أي ريثما تتحقق الوحدة العربية الكبرى، تسميةً الجمهورية العربية السورية، والأحسن أن نقول: القُطْر العربي السوري.. ولست أدري لماذا لم يحذفوا كلمة السوري، بالمرة.
لنتذكّر، ضمن هذا السياق، أن جماعة الإخوان المسلمين تنظيم عالمي، يَعتبر سورية جزءاً من العالم الإسلامي. وبالنظر إلى أن "الإخوان" قد شاركوا في الثورة السورية، تحت علم الثورة، ودعوا إلى أن تكون سورية دولة مدنية، مثلما كانت في الخمسينيات، فقد ظهروا متقدمين على غيرهم من الإسلاميين الذين يعتدون، يومياً، على علم الثورة السورية، ويسمونه علم الكفار، ولا يعترفون بحدود سورية، ويعتبرون (الوطنية) اختراعاً ماسونياً يقف وراءه اليهود، والمجوس، وربما: الصابئة.
السؤال الآن: إذا كانت الوطنية مرفوضة إلى هذه الدرجة، فما بالكم بالديمقراطية؟ يا ساتر.