سقوط ورقة الأقليات السورية
في مواجهة الأطروحات التفتيتية الكارثية التي تشهدها سورية حالياً، يؤلمنا الاعتراف، حقيقة، أنه عندما بذلت سلطةُ الانتداب الفرنسي جهوداً مضنية لتأصيل فكرة الكانتونات الطائفية، وفرضها بالقوة العسكرية على البلاد، مُني مشروعها بفشلٍ ذريع. في المقابل، نجح الابن الوارث، وبدرجة امتياز، في إفقاد السوريين الهوية الجامعة وإيقاظ العصبويات الهامشية منذ بداية عهده المشؤوم. وباستثناء صور قليلة بالزيّ العسكري مزروعة عند النقاط أو الحواجز الأمنية، يظهر بشار الأسد دائماً ببزّات رسمية وربطة عنق، وبابتسامته الهوليوودية الفاقعة يبدو كمن يجرّ البلاد من عنقها إلى خرابها الأخير. وعلينا الاعتراف أيضاً أنّ الأسد، ومنذ تبنّى بكائيات نظرية المؤامرة وأنين تلاعب الغرب بالشرق، حشر شعبه في ساحة الصراع الطائفي التي يتقن اللعبَ فيها، فغدت عقليته الانتهازية أشبه بأيديولوجيا قائمة على التوجّس الدائم من "المؤامرات" وإلقاء كلّ أسباب التخلف والفشل والهزيمة على "الغرباء" و"ضعاف النفوس" و"المغرّر بهم". وباتت لازمة ضروريّة مرتبطة بزعاقه المدوّي لتفسيرٍ لا يبحث عن الأسباب الحقيقيّة، وإنّما التهرّب من مواجهة المسؤوليّة. والواضح اليوم أنّ الأسد لم يعد في حاجة إلى السوريين مدافعين عنه، وأقصى حاجته إليهم أن يستخدمهم رهائن يبتزّ بمعاناتهم الخارج. إنهم، ببساطة، جزءٌ من نهج يعتمد على التلويح بالإرهاب بديلا، والتلويح بالرهائن الذين تودّ الغالبية منهم الهجرةَ وترك البلد لشبّيحته وفساده، بعدما فقدوا الأمل في خلاصٍ قريب، مع غيابٍ ملفتٍ للملفات الجادّة التي تعالج مشكلات الهوية السياسية في هذه المرحلة الحرجة من التحوّل البنيوي، ما يعكس سذاجة مستفزة في القراءة التاريخيّة، وضحالة فكريّة جرّت البلاد إلى جحيمٍ لا قرار له.
رعونة نظام الأسد في محاولة إخضاع سكان السويداء دفعت حتّى المحايدين إلى الانضمام إلى صفوف الثورة المطالبة بالحرية وإسقاط الاستبداد السياسي
ويمكن القول إنّ وكالة الأنباء الروسية "RIA FAN" أظهرت، منذ إبريل/ نيسان 2020، إنّ 31% فقط من السوريين في مناطق سيطرة النظام يوافقون عليه. مع هذا، ثمّة درسٌ يتوهم الأسد أنه كافٍ لإفهام شعبه الواقع تحت قبضته، أنّ قوى الخارج المؤثرة موافقة على بقائه، وأنّ من ثاروا عليه كان مصيرُهم الإبادة والتنكيل والتهجير. غير أنه يخطئ في التقدير من جهتين. الأولى، في اعتقاده أنّ مَن ينظر إليهم عبيدا في مزرعته لن يحتجّوا إذا منع عنهم أبسط مقومات العيش. والثانية، تتعلق باندلاع الاحتجاجات في أماكن لا يستطيع فيها وصم المحتجّين بالإرهاب، كما في مظاهرات السويداء، أخيرا، والتي جاءت ردّاً على قرارات حكومته الفاسدة، إبعاد نحو 600 ألف بطاقة ذكية للأهالي عن الدعم الحكومي، متجاهلة البؤس الذي وصل بهم إلى قعرٍ لا يُطاق. وعلى الرغم من أنهم يتحرّكون ضمن المساحة التي يرونها متاحة، إلا أن شعاراتهم المطالِبة "بدولة مدنية" تثير حساسية النظام السوري، ما يجعل الصدام محتماً، خصوصا أنّ النفس العام غير مؤيد لحاكمٍ لا مستقبل له ولا لحلفائه المارقين. ولا يُستبعد أن يكون بشّار نفسه متلهفاً لشعار يعطيه ذريعة استخدام العنف ضدهم، بعدما جالت المظاهرات الغاضبة أهم مراكز المدينة، وترافقت بهتافاتٍ تندّد بسياسة التجويع والتركيع التي تنتهجها الحكومة، مطالبة الجميع بالمشاركة في العصيان المدني حتى تحقيق أهداف الانتفاضة الحالية.
وعلى الرغم من محاولات السويداء المتكررة تجنّب الواقع الثوري والاكتفاء بالمراقبة، إلا أنّ رعونة نظام الأسد في محاولة إخضاع سكانها، وترهيبهم بالتفجيرات والاغتيالات التي طاولت رموز المدينة التي جاهرت بمعارضتها، دفعت حتّى المحايدين إلى الانضمام إلى صفوف الثورة المطالبة بالحرية وإسقاط الاستبداد السياسي. ولم يكتفِ بهذا، ففي 2011، أصدر النظام المرسوم التشريعي 107 الذي تضمن قانوناً يهدف إلى "إضفاء الطابع اللامركزي على السلطات والمسؤوليات وتركيزها في أيدي عناصر مختلفة من الشعب". ولكنّ هذا المرسوم، وكذلك المكرُمة اللاحقة المسماة "طرش الدم" التي سمحت للعائلات الدرزية الكبرى بالانتقام بالدم، في الحالات التي يرتكب فيها دورزٌ جريمة ضد دروزٍ آخرين، إنما يمثّلان جانباً من جوانب العودة إلى هياكل القيادة التقليدية التي ترى في المجتمع السوري مجموعة من الطوائف والقبائل، بدلاً من المواطنة والدولة التي يسود فيها القانون.
غدت مجموعة "مشايخ الكرامة" قوةً عسكرية مناهضة لا يستهان بها، تمكنت من إنهاء حالة التجنيد الإجباري
وغير مخفيّ على أحد أنّ النظام السوري كان حريصاً، منذ البداية، على إبقاء الدروز إلى جانبه، ضمن "حلف الأقليات" لمواجهة ما درج على تسميته "الخطر التكفيري والإرهابي". في الوقت ذاته، غدت مجموعة "مشايخ الكرامة" قوةً عسكرية مناهضة لا يستهان بها، تمكنت من إنهاء حالة التجنيد الإجباري، ومنع سحب قوات النظام بعض السلاح الثقيل من المحافظة. المجموعة التابعة للشيخ وحيد البلعوس الذي اغتيل عام 2015، وهو صاحب الكلمة الشهيرة: "جيراننا في حوران هم مستقبلنا الباقي، والاستبداد سيرحل ويتركنا لمصائرنا"، لم تتمكّن من إنهاء سطوة النظام في ظلّ تسليحه مجموعة كبيرة من أبناء المنطقة، أهمها "الدفاع الوطني" أو "درع الجبل"، والذي يضمّ حوالي ألف مقاتل، لديهم بطاقات إذن بحمل السلاح صادرة عن وزارة الدفاع السورية. يزيد الطين بلّة اعتماد السويداء، وبشكل شبه كلّي، على حكومة دمشق، في التموين بالغذاء والوقود والخدمات الرئيسية. مع هذا، يبدو النظام مستعدّاً دائماً للتفاوض، شرط ألاّ تمسّ التنازلات هيبته، لصالح تعزيز نوعٍ من الحكم الذاتي مخفّف الصيغة، يظهر ذلك في السماح بنشر حواجز لمليشيات درزية تحمل رايات وشعارات طائفية، بينما لم يُقدّم تنازلاتٍ صعبة، كان قد طالب بها "مشايخ الكرامة"، مثل إقالة رئيس فرع الأمن العسكري. ما يوحي بإمساك النظام العصا من منتصفها، وبقائه مُحرّكاً رئيسياً للأحداث في السويداء.
لن يكون النظامُ السوري وحليفته روسيا الطرفَ الوحيد الذي سيشحذ مخالبه، فثمّة لاعبٌ خبيثٌ على مقربة من المنطقة الملتهبة، سيدس السمّ في الدسم إنْ تمكن
عموماً، أصبح الأسد اليوم أضعف من أيّ وقت آخر، ويبدو أنّه انزلق، أخيراً، في فخّ الجحيم الذي حفره بنفسه، ويبدو أيضاً أنّه سيكون في مواجهةٍ خاصةٍ مع انتفاضة السويداء في ظلّ معطياتٍ على درجة عالية من الحساسية والتعقيد، لعلّ أهمها انتشار القوى الأمنية التابعة للنظام السوري ضمن الساحات الرئيسية في المدينة، بالإضافة إلى قطع بعض الطرقات، واعتلاء قناصيها أسطح مباني الحكومة. يزيد التوجّس أنّ وسائل إعلام روسية نقلت عن نائب مدير مركز حميميم التابع لوزارة الدفاع الروسية، اللواء أوليغ جورافليوف، بياناً ذكر فيه: "تفيد المعلومات الواردة أنّ زعماء العصابات المسلحة المختفية يخطّطون لتنفيذ عمليات تخريبية في أراضي محافظات حمص ودمشق ودرعا و(السويداء)". بطبيعة الحال، لن يكون النظامُ السوري وحليفته الطرفَ الوحيد الذي سيشحذ مخالبه، فثمّة لاعبٌ خبيثٌ على مقربة من المنطقة الملتهبة، سيدس السمّ في الدسم إنْ تمكن، فقد سبق للصحافي الإسرائيلي المختص بالشؤون الأمنية والاستخباراتية، يوسي ميلمان، أن صرّح أنّ "إسرائيل لن تسكت عن تعرّض الدروز في سورية لخطر وجودي". ونقل ميلمان عن مذكرات السياسي واللواء السابق في الجيش الإسرائيلي، إيغال ألون، قوله: "زرت السويداء مرات، وحلمتُ بالجمهورية الدرزية، التي تقع في جنوب سورية، بما في ذلك الجولان، في حلف عسكري مع إسرائيل. كما بنيتُ الكثير على الطائفة الدرزية في البلاد، التي كانت منظّمة في الجيش الإسرائيلي في أن يشكّلوا جسراً بيننا وبين الدروز الآخرين".
وسط هذه المعطيات، يبقى السؤال الجوهري الواجب طرحه هنا: هل ستكون انتفاضةُ السويداء بدايةً لسقوط "ورقة الأقليات"، وكشف العورة التي كانت تخفي قباحة النظام السوري، أم أنّها صرخة بلا صدى، سرعان ما تتلاشى على أعتاب الحوار مع الأسد؟